حلقات نقاشيه

 

ورقة عمل

"مدلولات القيم والمفاهيم الدستورية

في دستور 1971"

القاهرة في 16 يوليو 2006

مقدمة :

تشهد مصر في هذه الآونة ، العديد من مبادرات الإصلاح السياسي والديمقراطي والاقتصادي ، وتتعدد الجهات المبادرة لتقديم رؤى هذا الإصلاح ، وتتنوع المبادرات خارجيا وداخليا ، إلا أن العديد من هذه المبادرات لم يوفق في  وضع رؤى وتصورات محددة لبرامج إصلاحية ، و رغم الرغبة الصادقة في الإصلاح إلا أنها لم تشر إلى  برنامج زمني يحدد مراحل وخطوات الإصلاح .

ونظرا لعدم وضوح الرؤى المتكاملة لعملية الإصلاح السياسي ، جاءت المطالبة به متناثرة غير مترابطة من حيث الموضوعات المطلوب إجراء إصلاحات بشأنها أو من حيث توقيت وزمن تلك الإصلاحات .

ولم تكن الاستجابات لنداء الإصلاح أكثر حظا من المطالبة به ، فقد جاءت كرد فعل للضغوط المطالبة بالإصلاح، وجاءت  في شكل إجراءات غير مترابطة لا تجمعها رؤية إستراتجية أو هدف محدد ، سواء من حيث آثارها أو من  حيث مدى استجابتها للمطالب.

·       ماذا حدث

·       آثار الحدث

·       مدلول الحدث

·       ما كان يجب أن يحدث

·       رؤية للمناقشة

 ماذا حدث :

كرد فعل ونتيجة للضغوط المطالبة بالإصلاح،  صدرت العديد من التعديلات، سواء في الدستور أو التشريعات العادية على النحو التالي:

1.  صدر تعديل المادة 76 من الدستور بشأن تعديل طريقة اختيار رئيس الجمهورية، الذي أثار مسألة تعديل مواد أخرى بالدستور كالمادة 77 والمادة 82

2.  إلغاء القانون 105 بشأن محاكم أمن الدولة وما صاحب ذلك من ردود أفعال تطالب برفع حالة الطوارئ وإلغاء محاكم أمن الدولة طوارئ.

3.    قانون انتخاب رئيس الجمهورية.

4.     تعديل قانون مباشرة الحقوق السياسية.

5.     إصدار قانون الضرائب الجديد

6.    تعديلات قانون الإجراءات الجنائية

7.     تعديلات قانون السلطة القضائية

8.    تعديلات قانون العقوبات.

آثار الحدث :

التعديلات التشريعية السابقة في معظمها أثارت ردود أفعال متباينة ، ولم تلب للعديد من المطالب، وحسب آراء العديد ممن قصدتهم التعديلات التشريعية ، ومثل ذلك  تعديل قانون السلطة القضائية ، وتعديل قانون العقوبات فيما يخص الحبس في قضايا النشر

وفيما يخص الدستور على المستوى السياسي ظهر رأي يرى أن تعديل المادة 76 أو المواد الأخرى ذات الصلة لا تعني الكثير في ظل بقاء السلطات الواسعة لرئيس الجمهورية ، وهي سلطات كفلها الدستور ، الذي يؤثر رئيس الجمهورية ب 63% من مجمل السلطات. وامتد الخلاف حول تعديل مواد بالدستور إلى الأحزاب السياسية  فبينما رأى حزب ( الوفد ) ضرورة تعديل 22 مادة بالدستور،  رأي الحزب الناصري أن المطلوب وضع دستور جديد دون اللجوء لعملية التعديلات . ورأى حزب التجمع أن تعديل المادة 76 يمثل استجابة لثلث المطالب الوطنية حيث تجاهل تحديد الفترات الرئاسية، وتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية

وظهرت تباعا عدة اتجاهات على النحو التالي:

الاتجاه الأول :

ومؤداه أن طرحا  لتعديل الدستور في الوقت الحالي محل نظر،  وقد يسبب ارتباكا لخطوات الإصلاح الاقتصادي سيما أن تعديل الدستور  يقتضي العديد من المعقد من الإجراءات ، سيما ما يتعلق بالجمعية التأسيسية التي يناط بها وضع الدستور الجديد قبل طرحه للاستفتاء الشعبي ، خاصة وأن هذه الجمعية قد تثور بشأنها العديد من الخلافات من حيث طريقة التشكيل والقواعد والأسس والصلاحيات المخولة إليها.

الاتجاه الثاني :

يرى أن الأزمة لا تكمن في النص الدستوري أو القانوني بقدر ما تكمن في طبيعة النظام السياسي [1] وأن  المشكلة تكمن في أداء الدولة القائم على الممانعات وابتكار الأساليب للتحايل على أحكام الدستور .

الاتجاه الثالث:

يتبنى أصحاب هذا الاتجاه وجهة نظر مؤداها أن الدستور الحالي ، وبالنظر إلى الحقبة التاريخية التي وضع في ظلها ،  والفلسفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي قام عليها، لم يعد يتناسب مع الواقع الفعلي المصري ، بل قد يصل عدم الانسجام هذا إلى حد التناقض بين بعض مبادئ الدستور والتوجهات الاقتصادية  والسياسية والاجتماعية التي تتبناها الدولة في المرحلة الراهنة .

الاتجاه الرابع :

أن الدستور الحالي – وحسب هذه الوجهة من النظر . يحوى العديد من المبادئ والقيم الدستورية ، سيما المتعلقة بالحقوق والحريات العامة والتي لا تختلف عن نصوص العديد من دساتير العالم المتمدين وتتفق مع المواثيق الدولية لحقوق الإنسان ، وبالتالي ، فالحاجة إلى تفعيل هذه النصوص أولى من تعديل الدستور .

الاتجاه الخامس :

 ومؤداه ضرورة إدخال تعديلات على بعض نصوص الدستور – مع عدم تغييره -  بما يضمن تقليص سلطات رئيس الجمهورية ، وضمان الفصل بين السلطات ، وضمان المشاركة السياسية لكل التيارات.

مدلول الحدث :

قد يفصح تعديل المادة 76 ، أنه بالإمكان تعديل مواد بعينها في الدستور ، إن رغبت الإرادة السياسية في ذلك ، وكما حدث في التعديل الأول للدستور عام 1980 في المواد ا ،  2 ، 3 ،5 ، 77  وإضافة الباب السابع ( مجلس الشورى) استنادا لنص المادة 189 من الدستور.

كما أن هناك بعض المدلولات التي تشير إلي اتجاه الإرادة السياسية إلى  إجراء تعديلات بالدستور ، ومن ذلك تعديل قانون الأحزاب السياسية والذي تضمن إعفاء الأحزاب من ثلاثة مبادئ أساسية نص عليها الدستور، وهي الالتزام بشرط الشريعة الإسلامية وبمبادئ ثورة يوليو وبنسبة ال50% عمال وفلاحين فيما أطلق عليه البعض ( لي لذراع الدستور) وأفصح البعض عن أنه مقدمة لتعديل بعض مواد الدستور ، وأن التذرع بأن تعديل الدستور يقتضي العديد من الإجراءات أصبح مبررا يفتقر لأي أسانيد في الواقع العملي .

ويرى العديد من فقهاء القانون الدستوري أن تعديلا على دستور 1971 بوضعه الراهن بمثابة ترقيع لثوب مهلهل لن يرتقي به إلى متطلبات الإصلاح الشامل، وليس على مستوى الإصلاح الاقتصادي فحسب.

ما كان يجب أن يحدث:

يرى المركز أن التعديلات التشريعية ورغم ما أثير بشأن عدم تلبيتها لمعظم مطالب المنادين بها ، إلا أنها تستند الى نصوص الدستور المصري ، الأمر الذي كان يستدعي أولا وقبل الدخول في مسألة التعديلات الدستورية أو التشريعية ، قراءة متأنية للدستور المصري من زاوية مؤداها،  مدى صلاحية الدستور المصري لأن يستمر كوثيقة دستورية صالحة لمدة قرن قادم ، بغض النظر عن الحالة الواقعية ، وكان ينبغي طرح تساؤلات :

هل يتضمن الدستور الحالي نصوصا تكفل حقوق وحريات المواطنين بحيث لا تكون هذه الحقوق عرضة للإلغاء أو التقييد الشديد من خلال التشريعات العادية ؟

هل تكفل نصوص الدستور الحالي الفصل بين السلطات، وفق معايير موضوعية تحفظ لكل سلطة استقلالها وتضمن التكامل فيما بينها ؟

هل تقرر نصوص الدستور الحالي مسئولية سلطات الدولة والقائمين عليها عن انتهاك الدستور والقوانين وحرمات المواطنين؟

لماذا وعلى الرغم من أن الدستور قد حشد بالنصوص التي تكفل عددا ضخما من الحريات والحقوق الأساسية إلا أن ما يتحقق منها عمليا  لا يتناسب وهذه النصوص ؟

هل  يحوي  الدستور بالفعل نصوصا غامضة لا يسهل معها  الاستدلال على نوع الحكم الذي تقرره.[2]؟

رؤية المركز بشأن الإصلاح الدستوري

يرى المركز – مع تقديره لكل وجهات النظر المطروحة بشأن تعديل أو تغيير الدستور – أن ثمة جانب لم يتم التركيز عليه في هذا الشأن، رغم أهميته ، وهو مدلولات القيم والمفاهيم الخاصة بالحقوق والحريات العامة ، وكيفية تناول نصوص الدستور لهذه المفاهيم ، ومدى التطور الواقع على مفاهيم الحقوق والحريات العامة ، والتي تبنتها المواثيق الدولية وفق مفهوم متطور ، ووقف الدستور المصري حيالها عند حد معين .

وسوف نتعرض لبعض هذه المفاهيم وصياغة المشرع الدستوري لها وبشئ من الإيجاز على النحو التالي:

   1.       قيمة ومفهوم مبدأ المساواة

  2.        قيمة ومفهوم حالات الضرورة

  3.        قيمة ومفهوم نص المادة الثانية من الدستور

  4.        قيمة ومفهوم الحرية الشخصية

  5.        قيمة ومفهوم الحق في السلامة الجسدية

  6.        قيمة ومفهوم حرمة الحياة الخاصة

  7.        قيمة ومفهوم حرية الرأي والتعبير

  8.        قيمة ومفهوم أصل البراءة والمحاكمة العادلة والمنصفة، وحق الدفاع.

  9.        قيمة ومفهوم الحق في اللجوء للقضاء الطبيعي

10.      قيمة ومفهوم مبدأ الفصل بين السلطات

11.      قيمة ومفهوم مبدأ استقلال القضاء

بداية وقبل التطرق لرؤية المشرع الدستوري المصري للقيم والمفاهيم السابق الإشارة إليها ومدى التطور الواقع على هذه المفاهيم فهناك بعض الملاحظات يجدر التنويه إليها على النحو التالي :

أولا : المشرع الدستوري المصري، وعند تناوله للحقوق والحريات العامة، قد فوض المشرع العادي تفويضا كاملا غير مشروط، لتنظيم ممارسة هذه الحقوق عبر استخدامه لعبارات " وفقا لأحكام القانون – في الأحوال المبينة في القانون –في حدود القانون........الخ "  وهذا الأمر قد يهدد الحقوق والحريات العامة الواردة في صلب النصوص الدستورية لدرجة تصل بالمشرع العادي إلى فرض العديد من القيود على ممارسة الحقوق المكفولة بنصوص دستورية ، تنحدر بها من مدراج تنظيم الحقوق إلى درك العصف بأصل الحقوق .

هذا وإن كان تفويض المشرع الدستوري للمشرع العادي معترفا به في معظم الدساتير ، بأن تقوم الدساتير بوضع قواعد عامة مجردة ، وتترك للمشرع العادي وضع القواعد القانونية التفصيلية المتعلقة بإنفاذ هذه المبادئ الدستورية وهو ما يطلق عليه " تفويض السلطة التشريعية في إصدار القوانين المكملة للدستور " ، إلا أن صياغة هذه الدساتير،  للنصوص ذات الصلة بالقيم والمفاهيم الأساسية،  تكون من الوضوح ودقة الصياغة بشكل لا يسمح بالافتئات على هذه القيم والمفاهيم ، وذلك بوضع مجموعة من الضوابط التي تحدد المدى والظروف والمقتضيات والحدود التي يجوز للسلطة التشريعية عندها فرض قيود على القيم والمفاهيم الدستورية ، وبذلك تحول هذه الصياغات بين السلطة التشريعية وقدرتها على المساس بهذه المفاهيم والقيم دون الالتزام بالمحددات الدستورية ، الأمر الذي تجاهلته نصوص الدستور المصري في هذا الشأن .

ثانيا : الدستور الحالي لا يحيل الكثير من الحقوق والحريات إلى القوانين واللوائح التنفيذية لوضع القواعد القانونية التفصيلية فحسب ، وإنما يحيل الكثير من هذه الحقوق إلى قوانين تحد من المبدأ الدستوري وتضع قيودا عليه ،  وفي كثير من الأحيان تأتي القوانين لتفرغ الحق الدستوري من مضمونه الأصلي .الأمر الذي يؤدي في الواقع إلى أن القانون الأدنى متمثلا في التشريع العادي يعلو على النص الدستوري بما يخالف مبدأ سمو النصوص الدستورية في سلم الهرم التشريعي .

ثالثا: تفويض المشرع الدستوري للسلطة التنفيذية اختصاص التشريع، مما قد يترتب عليه عدم إيلاء الاعتبار للقيم الدستورية عند صياغة التشريعات ، التي غالبا ما تحتمل عوارا دستوريا ومطاعن  بعدم دستوريتها  .

رابعا : العديد من القيم والمفاهيم التي تتضمنها نصوص الدستوري المصري ، ونتيجة لصياغة هذه النصوص ، فهمت على أنها نصوص توجيهيه ، أي أنها توجه المشرع إلى ما ينبغي أن يفعله ، ولكنها لا تلزم المشرع بأن يفعل شيئا _ وقد قيل بهذا أحيانا في مذكرات الحكومة بشأن قضايا تنظرها المحكمة الدستورية العليا – الأمر الذي يتناقض مع مفهوم الوثيقة الدستورية التي تعني الإلزام لكل سلطات الدولة .

أولا : قيمة ومفهوم المساواة :

المادة 40 من الدستور الحالي[3] ووفق صياغتها قد حددت الأسباب التي لا يجوز الاستناد إليها كزريعة للتمييز بين المواطنين ، والمادة وحسب سياق نصوص المواد ذات الصلة بالقيم والمفاهيم في دستور 1971 تفهم على أنها نص توجيهي ، ولم ترد الآراء السياسية أو الاجتماعية كسببين آخرين لا يجوز التزرع  بهما للتمييز بين المواطنين .

ثانيا : قيمة ومفهوم الحرية الشخصية :

وهذه القيمة هي حجر الأساس للعديد من الحقوق والحريات النابعة من هذه القيمة حيث أن الحرية الشخصية لا تتحقق إلا بتضافر الحقوق الفرعية الناشئة عنها  ، وأنها معنى مكون من حريات عدة وهي: حرية الذات، وحرية المأوى، وحرية الملك، وحرية الاعتقاد، وحرية الرأي والتعبير ، وحرية التعليم، وحرية التنقل ...الخ وأن كفالة هذه الحرية في صلب الدستور لا تتحقق من خلال النص على معطياتها النظرية فقط ، ولكن حماية هذه  الحقوق تتحقق حين يكفل الدستور في صلبه الحماية لهذه الحقوق في جوانبها العملية .

ويبدو من الوهلة الأولى لقراءة نص المادة 40 من الدستور أن المشرع ارتقى بالحرية الشخصية إلى مصاف الحقوق الطبيعية ثم ، وكما سلف الإشارة ، أفرغ الحق من مضمونه عندما ترك للمشرع العادي دون ثمة ضابط ، أن ينتقص من هذا الحق وأكثر بأن فوض للمشرع العادي انتهاك أصل الحق وتنظيم هذا الانتهاك في ما يسمى بالحبس الاحتياطي .

كذلك ومما يستدعى النظر و القراءة المتأنية لنص المادة ، أن مفهوم المشرع الدستوري للحرية الشخصية قاصر على الحقوق المتعلقة بأصل البراءة كعدم القبض أو التفتيش أو الحبس أو المنع من التنقل ، رغم أن مدلولات الحرية الشخصية  أبعد مدى وأكثر عمقا من مفهوم المشرع الدستوري المصري .

ولن نتطرق إلى ما نتج عن هذه الصياغة من عصف بالعديد من الحقوق والحريات الأساسية عبر القبض والتفتيش والحبس الاحتياطي في الواقع العملي ، ولم تلزم التشريعات مصدر قرار الحبس الاحتياطي بتسبيبه، وأصبح يصعب القول أن هناك حدا أقصى لمدة الحبس الاحتياطي ، بما يترتب على ذلك من عصف لبقية الحقوق الأخرى .

ثالثا : قيمة ومفهوم الحق في السلامة الجسدية:

لم يضع المشرع الدستوري المصري ثمة ضوابط موضوعية لحماية الحق في السلامة الجسدية ، سوى عدم ترتيب اثر قانوني على الاعتراف تحت وطأة التعذيب وجاء النص كنص توجيهي ، واقتصر مفهوم الحق في السلامة الجسدية في الدستور المصري للمقبوض عليهم أو الواقعين تحت التحقيقات ، ولم يجرم المشرع العادي نتيجة لمفهوم هذا الحق في الدستور سوى حالة واحدة من حالات التعذيب وهي حالة التعذيب لحمل المتهم على الاعتراف .

رابعا : قيمة ومفهوم الحق في حرمة الحياة الخاصة :

تناولت المادتين 44 ، 45 ، 57 من الدستور مسألة الحق في حرمة الحياة الخاصة ، حيث أضفت المادة 44 حماية شكلية على حرمة المساكن ، وفقا لأحكام القانون ، ثم فوضت المادة 45المشرع العادي في حماية حرمة حياة المواطنين الخاصة بلا وجود أي ضوابط أو محددات تلزم المشرع باحترام هذه القيمة  .

تكفلت المادة 57 بوضع ضمانتين موضوعيتين لانتهاك هذا الحق تمثلتا في عدم سقوط الدعوى الجنائية والمدنية بالتقادم، والحق في التعويض ، وقد جاءت المادة لعلاج آثار انتهاك الحق وليس لضمان وكفالة  الممارسة العملية للحق  .

خامسا : قيمة ومفهوم حرية الرأي والتعبير :

في ذات السياق التفويضي للمشرع العادي كفلت المادة 47 و 48 حرية الرأي والتعبير في حدود القانون ووفقا للقانون وفوضت المشرع في انتهاك هذه الحريات في الأمور المتصلة بالسلامة العامة أو الأمن القومي ، وهما معياران يسمحان بالعصف بهذا الحق تحت معايير فضفاضة .

ورغم المحاولات القضائية ، خاصة قضاء المحكمة الدستورية العليا ، لوضع تفسير لعبارات " في حدود القانون أو وفقا لأحكام القانون " بطريقة تسمح بالحد من  القيود الواردة في التشريعات العادية على قيمة ومفهوم الحق في حرية الرأي والتعبير  ، حين قررت المحكمة ".......فإذا خرج المشرع فيما يضعه من تشريعات على هذا الضمان الدستوري ، بأن قيد حرية وردت في الدستور مطلقة ، أو أهدر أو انتقص  من حرية تحت شعار التنظيم الجائز دستوريا وقع عمله التشريعي مشوبا بعيب مخالفة الدستور " [4] .

ورغم أهمية هذا التفسير لعبارات " في حدود القانون ، أو وفقا لأحكام القانون فإن المحكمة لم تضع تعريفا يوضح متى يكون تدخل المشرع منظما للحق ، ومتى يكون تدخله بغرض سلب الحق ، أو حتى بغرض جعل استعماله صعبا أو مرهقا [5] .

كما استحدث نص المادة 47 في عجزها ، مصطلحا لم يسبقها إليه غيره من الدساتير وهو " النقد الذاتي والنقد البناء ضمانة لسلامة البناء الوطني " وقد فسر البعض هذه العبارة على أنها قيد دستوري إضافي على حرية الرأي والتعبير والتي يتعين من وجهة نظرهم أن تكون في حدود القانون من حيث الشكل ، ولا يكون التعبير محميا إلا إذا كان من قبيل النقد البناء من حيث المضمون [6] .

وعبارة النقد البناء الواردة في النص الدستوري عبارة فضفاضة قد تختلف على مدلولاتها العديد من وجهات النظر ، وقد يسمح وجودها حال اختلاف حرية الرأي والتعبير مع  وجهة نظر الجهات الحاكمة إلى العصف بهذه الحرية وتقرير مسئولية جنائية أحيانا على ممارسة هذا الحق الدستوري .

كذلك حفلت المادة 48 من الدستور بمعايير فضفاضة غير واضحة كالأمور التي تتصل بالسلامة العامة وأغراض الأمن القومي كذرائع لفرض رقابة على حرية الصحف والمطبوعات ووسائل الإعلام .

سادسا : قيمة ومفهوم  أصل البراءة والمحاكمة العادلة والمنصفة، وحق الدفاع.

تنص المادة 67 على أن " المتهم برئ حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه. وكل متهم في جناية يجب أن يكون له محام يدافع عنه "

وقد تفصح القراءة المتأنية للنص الدستوري السابق على أنه ، وإن بدا أن المشرع الدستوري قصد إلى تبني مفاهيم وقيم ، الحق في أصل البراءة والحق في المحاكمة القانونية وحق الدفاع ، حسبما ورد بصياغة النص ، إلا أن الصياغة على النحو السابق تفرغ ما قصد إليه المشرع من مضمونه .

فما المقصود بالمحاكمة القانونية الواردة في النص الدستوري ؟ والإجابة ووفقا لمفهوم النص هي محاكمة وضع المشرع ضوابطها ، وكأن الدستور بهذا أراد أن يقرر أن كل محاكمة يضع المشرع ضوابطها هي محاكمة تتفق مع أحكام الدستور،  ولا يمكن بحال أن يتعمد دستور إلى قصد هذا المعنى.

إذن كلمة محاكمة قانونية لا تعدو أن تكون من قبيل الملهاة والمبكاة في آن واحد ، فالدستور يستعمل لفظا ليس له معنى ، وذلك لأن المحاكمة القانونية محاكمة وضع المشرع ضوابطها ، وهذه الضوابط ذاتها يمكن أن تكون محل مراجعة من حيث اتفاقها أو اختلافها مع المفاهيم والقيم الدستورية في مجملها .

وبالتالي فإن النص الدستوري تجاهل الفرق بين المحاكمة المنصفة والمحاكمة العادلة ، والمحاكمة القانونية .

فالمحاكمة المنصفة تتحقق بتوافر حد أدني من الضوابط التي إذا خلت منها المحاكمة كانت مخالفة للقيم الدستورية ، إذن هي المحاكمة التي تقع في نطاق الحد الأدنى من الضوابط التي يجب أن يفرضها الدستور على المشرع .

والمحاكمة العادلة هي محاكمة تقع في نطاق حد كامل من الضوابط التي يتحقق بها الأمن والعدل للمواطن ´المتهم " .

أما المحاكمة القانونية فهي محاكمة لا معنى لها ، والتساؤل هل يحمي هذا النص المواطن ويحمي الحقوق الأساسية التي يجب أن تتم المحاكمة المنصفة أو العادلة على ضوئها ! كأن النص يدور في الفراغ.

ولم يرد في نصوص الدستور المصري نص يشير الى المحاكمة المنصفة أو العادلة .

وكذلك عند تقرير النص لحق الدفاع لم يجعل هذه الضمانة الدستورية تتسع لتشمل المتهم بارتكاب جناية أو جنحة ، وقصر هذه الضمانة على المتهم بارتكاب جناية فقط .

سابعا : قيمة ومفهوم الحق في اللجوء للقضاء الطبيعي :

أقرت المادة 68 من الدستور حق المواطنين في التقاضي وحق كل مواطن في اللجوء إلى قاضيه الطبيعي إلا أن الدستور ذاته وفي المادة 167 فوض المشرع تفويضا كاملا في أن يحدد الهيئات القضائية واختصاصاتها وينم طريقة تشكيلها ويبين شروط وإجراءات تعيين أعضائها ، وبالتالي فوض المشرع الدستوري المشرع العادي في تحديد ماهية القضاء الطبيعي لكل مواطن ، وما نتج عن ذلمك من إمكانية العصف بحق اللجوء للقضاء الطبيعي عبر إحالة المدنيين إلى المحاكم العسكرية مثلا واعتبارها قاضيا طبيعيا لهم .

كما تضمن الدستور كذلك النص على محاكم أمن الدولة ، واعتبارها وفقا لمفهوم الدستور المصري قضاء طبيعيا

ثامنا : قيمة ومفهوم مبدأ الفصل بين السلطات :

بالنظر إلى الصلاحيات المعطاة لرئيس الجمهورية في الدستور، حيث أنه من مجموع خمس وخمسون مادة، تتضمن صلاحيات أو سلطات في الدستور،خص رئيس الجمهورية وحدة ، بخمس وثلاثين(35 )صلاحية وسلطة بنسبة ثلاث وستون بالمائة (63% )، حين بلغت سلطات الوزراء وصلاحياتهم أربع (4 ) بنسبة اثنان بالمائة( 2% )والسلطة القضائية أربع صلاحيات بنسبة  اثنان بالمائة(2% )والسلطة التشريعية بمجلسيها أربع عشرة ( 14) سلطة وصلاحية بنسبة خمس وعشرين ( 25 %)، والمدعي الاشتراكي سلطة واحدة وكذلك المجلس الأعلى للصحافة وله سلطة واحدة

ويلاحظ من قراءة مواد الدستور بعض الملاحظات

1 . أن العلاقات بين السلطة التنفيذية والقضائية تختلف عنها بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية، فالسلطة التنفيذية تمارس نفوذا مؤسسيا أعلى في مواجهة السلطة القضائية. ويظهر ذلك فيما يتمتع به كل من رئيس الجمهورية ووزيري العدل والداخلية ،من إمكانيات سلطوية في مواجهة القضاء.

2 . وفقاً للدستور، فإن السلطة التشريعية تتمتع بسلطات ضئيلة في مواجهة السلطة التنفيذية، فمثلاً في المادة 115 ينص الدستور على ".. ولا يجوز لمجلس الشعب أن يعدل مشروع الموازنة إلا بموافقة الحكومة "والمجلس لا يقر بيان الحكومة بل طبقاً لحرف الدستور في المادة 133 "ويناقش مجلس الشعب هذا البرنامج"  ، أما بالنسبة لمجلس الشورى، فيعين رئيس الجمهورية ثلث أعضائه، هذا بالإضافة إلى أن الحكومة غير مسئولة أمام المجلس، بل وفقا لنص المادة 195 من الدستور "يؤخذ رأيه"، وليس له سلطة تقريرية.

وتعطى المادة 127 من الدستور ،صورة دقيقة للضعف المؤسسي للسلطة التشريعية في مواجهة السلطة التنفيذية، وهى المادة الخاصة بتقرير مسئولية رئيس مجلس الوزراء ،التي لا تعتبر نافذة إلا بعد موافقة رئيس الجمهورية على ذلك، ولرئيس الجمهورية في حالة الرفض ،رد تقرير مجلس الشعب، هذا وإذا استمر مجلس الشعب على تأكيده بتقرير مسئولية رئيس مجلس الوزراء،  جاز لرئيس الجمهورية عرض الأمر على الاستفتاء الشعبي، وإذا جاءت نتيجة الاستفتاء مؤيدة للحكومة، اعتبر المجلس منحلاً، أما إذا أقر الاستفتاء ما ذهب إليه مجلس الشعب، قبل رئيس الجمهورية استقالة الوزارة .

على أنه، من الغريب، أن رئيس الجمهورية بصلاحياته وسلطاته تلك ،يظل دائما بمنأى عن المساءلة السياسية أمام البرلمان ،أو القانونية أمام المحاكم  العادية ، عدا حالة ارتكابه جريمة الخيانة العظمي والجرائم الجنائية الأخرى، فقد نص الدستور على أن يصدر قرار الاتهام بأغلبية ثلثي أعضاء المجلس وأن تتم محاكمة الرئيس أمام محكمة خاصة ينظمها القانون، وتجدر الإشارة إلى أنه لم يصدر قانون ينظم محاكمة رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو الوزراء حتى الآن .[7]

تاسعا : قيمة ومفهوم مبدأ استقلال القضاء:

أنه على الرغم من أن الدستور في المادة 165، قد نص صراحة على استقلال السلطة القضائية، كما نص في المادة 166 على استقلال القضاء ،وعدم جواز تدخل أية سلطة في "شئون العدالة"، فإن هذا الاستقلال، في كثير من الأحيان ،مقيد أو محكوم بعوامل واعتبارات عدة ،يأتي على رأسها ،أن القضاء المصري ليس قضاء تشريع ، بمعنى أن القاضي ينفذ القانون الصادر من السلطة التشريعية ، فمن خلال ذلك العامل يمكن للسلطة التنفيذية ،لما لها من تأثير وهيمنة على السلطة التشريعية ،أن تدفع لإصدار قوانين متعلقة بشئون العدالة بما في ذلك قوانين تنظم السلطة القضائية وتنتقص من استقلالها ،ويمكن القول أن كل حصانات وامتيازات القضاة المنصوص عليها في المواد 165 و167و168و170و171و172و173 من الدستور قد أحال الدستور في بيانها وتنظيمها إلى القانون ، وهو الأمر الذي يمكن السلطة التنفيذية أن تسلب بالقانون الحقوق والضمانات الدستورية للقضاة مستندة في ذلك على أغلبيتها الكاسحة في البرلمان  .

الملاحظة الثالثة : أن المادة 173 من الدستور ، بنصها على أن يرأس رئيس الجمهورية المجلس الأعلى للهيئات القضائية ،الذي يقوم على شئون الهيئات القضائية كلها – والذي أحال الدستور طريقة تشكيله واختصاصاته وقواعد سير العمل فيه – إلى قانون يصدر بتنظيم ذلك ، تكون قد أخضعت السلطة القضائية فعليا للسلطة التنفيذية التي يرأسها رئيس الجمهورية ، خاصة وأن الدستور قد نص على أن هذا المجلس يجب أن يؤخذ رأيه في مشروعات القوانين التي تنظم شئون الهيئات القضائية .

أن المشرع الدستوري قد أدخل محاكم أمن الدولة – وهي محاكم استثنائية بطبيعتها – في صلب النظام القضائي المصري ، بنصه في المادة 171 من الدستور على أن "ينظم القانون ترتيب محاكم أمن الدولة و يبين اختصاصاتها و الشروط الواجب توافرها فيمن يتولون القضاء فيها " وهو أمر يشكل بذاته عدوانا على القضاء الطبيعي من ناحية ، وإدماجا لنظام قضائي استثنائي في بنيان السلطة القضائية بنص الدستور.

وهكذا يمكن القول، بأن مفهوم استقلال القضاء مفهوما غير واضح ،في ذهن المشرع الدستوري المصري ، والذي إما نص عليه بشكل منقوص - مثل النص على أن المحكمة الدستورية هيئة قضائية مستقلة دون التطرق إلى النص على استقلال قضاة المحكمة – أو بالإحالة ،فيما يتعلق ببعض ضمانات الاستقلال، إلى قوانين يصدرها مجلس الشعب الخاضع لهيمنة السلطة التنفيذية – مثل النص الوارد في المادة 167 من الدستور، أن يترك تحديد الهيئات القضائية واختصاصاتها وشروط تعيين أعضائها ونقلهم للقانون ، أو نص المادة 168 من الدستور، والتي تترك للقانون تنظيم مهمة تأديب أعضاء الهيئات القضائية ، أو بإدماجه لمحاكم أمن الدولة ،وهي قضاء استثنائي ، ضمن مكونات السلطة القضائية ،الأمر الذي يعتبر بذاته انتقاصا من استقلال القضاء [8].

الأمثلة السابقة تتعدد مرارا وتكرارا في نصوص متعلقة بالحقوق والحريات الأساسية، الأمر الذي يلح على ضرورة أن يجتمع الحكماء والفقهاء  ، للنظر إلى القيم والمفاهيم الواردة بالدستور ومدلولاتها ، ومدى التطور الذي طرأ على هذه المفاهيم والقيم ، عبر التشريعات والمواثيق الدولية ، بل أن تطورا قد طرأ على هذه القيم والمفاهيم في المواثيق الدولية وتخطاها .  

وإيمانا بأهمية الوثيقة الدستورية وضرورة احتواءها قيم ومفاهيم الحقوق والحريات وحمايتها في آن؛

وإيمانا بكافة المبادئ المتعلقة بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية والمستجدات الحاصلة عليها والتي تموج بها الساحة الدولية بما صدر  ويصدر عنها من مواثيق وإعلانات وقرارات؛

وايمانا بأحقية المواطن المصري في كفالة الحقوق والحريات وفقا للمعايير المتفق عليها على نطاق واسع ؛

وانطلاقا من ضرورة اتساق الدستور المصري وفقا لفلسفة ونهج يتفق والعصر الحالي ؛

وبضرورة تضافر كل الجهود من أجل وضح ملامح لدستور جديد ؛

واعترافا بدور مؤسسات المجتمع المدني، والحكماء والفقهاء والمعنيين بالحقوق والحريات كشركاء في وضع تصور لوثيقة دستورية وفق المعايير الدولية؛

واعترافا بأن هناك رغبة حقيقية في الإصلاحات السياسية والدستورية ،

واعترافا أيضا بغياب وجود قواسم مشتركة ورؤية متفق عليها ، خاصة فيما يتعلق بالقيم والمفاهيم الدستورية بشأن الحقوق والحريات ؛

فإننا ندعو إلى :

مناقشة معمقة للقيم والمفاهيم الدستورية بشأن الحقوق والحريات الأساسية والتنظيم الدستوري لها عبر حكماء و فقهاء وشخصيات، متخصصة، مهتمة بالعمل الاجتماعي والقانوني والسياسي. تعنى بمناقشة هذه المفاهيم والقيم الدستورية ، دون الارتباط بالواقع الحالي ، وتطرح فهما للقيم الدستورية تتفق والمعايير الدولية المعترف بها في هذا الشأن ،  وتؤدي إلى صياغة منطقية ومنضبطة للنصوص ، تحد من قدرة المشرع العادي في تغول والافتئات على هذه القيم والمفاهيم .


[1] حول الانتخابات الرئاسية المصرية 2005 ..جدل السياسة والقانون .....ثلاثة مشاهد – احمد المسلماني :كاتب سياسي – جريدة الأهرام

[2] نقد دستور 1971 ودعوة لدستور جديد- أ.احمد عبد الحفيظ

[3] المواطنون لدى القانون سواء ، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة ، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة .

[4] حكم المحكمة الدستورية العليا بجلسة 7 مايو 1988 – الدعوى رقم  44 لسنة 7 ق.د

[5] الأستاذ نجاد البرعي المحامي و رئيس جماعة تنمية الديمقراطية -  المقصلة والتنور ...حرية التعبير في مصر 2002-2003 المشكلات والحلول – ص 195 وما بعدها

[6] المرجع السابق

[7] المرجع السابق

[8] المرجع السابق