السُّودان : المواجهة الخطأ بين الحكومة والمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة (جدليات القانون والسياسة في جرائم دارفور) ورقة مقدمة لمؤتمر "المحكمة الجنائية الدولية وأزمة إقليم دارفور" القاهرة فى 19 يناير 2008 |
|
أولاً: وقائع الإحالة: (1) في 1/10/2004م ، وبطلب من مجلس الأمن ، أنشأ الأمين العام السابق للأمم المتحدة لجنة دوليَّة برئاسة القاضى الايطالى أنطونيو كاسيسي للتحقيق في الأحداث التي وقعت بإقليم دارفور خلال الفترة الممتدة من 1/7/2002م. (2) وفى يناير 2005م استكملت هذه اللجنة عملها ، ورفعت تقريرها إلى الأمين العام ، حيث: أ/ خلصت إلى أن ثمة ما يدعو للاعتقاد بأن (جرائم ضد الانسانيَّة) و(جرائم حرب) قد ارتكبت فى هذا الاقليم من جانب القوَّات الحكوميَّة ومليشيا الجنجويد التي تدعمها ، إضافة إلى عناصر حركات التحرير. ب/ أرفقت مع التقرير مظروفاً مغلقاً يشمل أسماء 51 متهماً بارتكاب تلك الجرائم. ج/ أوصت ، من ثمَّ ، بإحالة Referral هذا الملف من قِبَل مجلس الأمن إلى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة فى لاهاى. د/ إستبعدت وقوع جريمة (الإبادة الجماعيَّة) ، وإن لم تستبعد وقوع أفعال من بعض مسئولي الحكومة قد تشكل (الركن المادي) لهذه الجريمة ، لكنها تشككت في توفر عنصر (القصد الجنائي mens rea) الذي يشكل (ركنها المعنوي) ، تاركة هذا الأمر لتبت فيه المحكمة بنفسها. (3) وفي 31/3/2005م ، وبالاستناد إلى التوصية المشار إليها ، أصدر مجلس الأمن قرار (الإحالة) بالرقم/1593 ، مستخدماً صلاحياته تحت المادة/13/ب من (نظام روما لسنة 1998م) الذى أنشئت المحكمة على أساسه ، مقروءة في ضوء (الفصل السابع) من ميثاق الأمم المتحدة ، معتبراً أن الوضع فى الاقليم يشكل تهديداً للسلم والأمن الدوليين ، وطالباً من كلِّ الدول المعنيَّة التعاون مع المحكمة. (4) وإلى ذلك تضمَّن قرار الاحالة إشارات إلى بعض مواد (نظام روما) ، وعلى رأسها: أ/ المادة/1 التى تفتح الباب لولاية واختصاص المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة التكميليين Complementary ، واللذين لا ينعقدان ، حسب هذه المادة ، إلا إذا ثبتت عدم (قدرة) أو عدم (رغبة) الدولة المعنيَّة وقضائها الوطني في ممارستهما. ب/ المادة/16 التى تحظر البدء أو المضي قدماً فى أى تحقيق أو مقاضاة بموجب هذا النظام لمدة قد تصل إلى اثنتى عشر شهراً ، وذلك بناءً على قرار من المجلس نفسه ، تحت الفصل السابع ، مشمول بطلب فى هذا المعنى إلى المحكمة ، كما تجيز للمجلس تجديد طلبه هذا بالشروط ذاتها. ج/ المادة/75 الخاصَّة بجبر أضرار المجنى عليهم. د/ المادة/79 الخاصَّة بالصندوق الاستئمانى. هـ/ المادة/98/2 الخاصَّة بالتعاون فى ما يتعلق بالتنازل عن الحصانة والموافقة على التسليم. (5) أما في ما عدا ذلك فقد احتدم الجدل داخل مجلس الأمن حول ما إن كانت جريمة (الإبادة الجماعيَّة) قد ارتكبت ، حسبما رأى فريق من الأعضاء بقيادة الولايات المتحدة وبريطانيا ، أم لم ترتكب ، وفق ما رأى أعضاء آخرون ، حيث استقر الرأى ، أيضاً ، على ترك هذا الأمر لتبت فيه المحكمة بنفسها ، حسب توصية اللجنة الدوليَّة ، وحسبما صرَّح بذلك ، لدى زيارته للخرطوم أواخر سبتمبر 2005م ، السيد خوان مانديز ، المستشار الخاص للأمين العام للأمم المتحدة لمنع الابادة الجماعيَّة (صحيفة الأيام ، 27/9/2005م).
ثانياً: إجراءات مكتب المدَّعـي العام ومحكمة ما قبل المحاكمة: (1) بعد استلامه للملف الذى يحوى محفوظات ووثائق لجنة كاسيسي ، أعلن لويس مورينو أوكامبو ، المدَّعي العام للمحكمة ، أنه سيعكف على دراسته ، لكنه لن يتقيَّد به أو بقائمة الـ 51 متهماً المرفقة معه ، وأن مكتبه سيجري تحقيقات مستقلة. (2) فى 6/6/2005م ، وبعد دراسته للملف ، فضلاً عمَّا تلقاه من معلومات بآلاف الوثائق من مصادر أخرى مختلفة ، واستجوابه لأكثر من خمسين خبيراً مستقلاً ، أعلن أوكامبو أن كلَّ المتطلبات القانونيَّة الأوَّليَّة قد استوفيت ، فاتخذ قراره بفتح التحقيق ، مطالباً السودان وكل الأطراف المعنيَّة (بالتعاون) معه. (3) إستغرق ذلك التحقيق فترة تجاوزت العام ونصف العام ، قدم المدَّعي العام خلالها بعض التقارير الدوريَّة إلى مجلس الأمن ، كتقريريه في 13/12/2005م و14/6/2006م. وقد كشف ، في التقرير الأول ، عن زيارة قام بها وفد من مكتبه إلى السودان ، "للوقوف على سير المحاكم الوطنيَّة ومدى مطابقتها للمعايير الدوليَّة ونظام روما" ، وأبلغ المجلس بأن المحكمة الخاصَّة التي أنشئت في مدينة الفاشر بشمال دارفور أدانت فقط 13 شخصاً ، من بينهم واحد أدين فى جريمة قتل من ضمن 160 مشتبهاً به (الصحافة ، 14/12/2005م). لكن الملاحظة الجديرة بالاعتبار ، في التقرير المذكور ، هى أنه قد أكد على الاستقلاليَّة التامَّة للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة عن مجلس الأمن وغيره من الجهات ، مِمَّا يكتسي أهميَّة خاصَّة ، بالنظر لحداثة هذه المؤسَّسة وما تنتظره الشعوب منها. (4) ولعلَّ من المناسب أن نشير هنا إلى التقرير الذي أصدره مكتب المدَّعي العام في 14/9/2006م ، حول استراتيجيَّة عمله بوجه عام ، كجزء من الخطة العامَّة لعمل المحكمة ، حيث: أ/ شملت أهداف هذه الاستراتيجيَّة مواصلة ترقية الأداء النوعي للادِّعاء ، بغرض استكمال قضيتين ، وفتح 4 ـ 6 تحقيقات مع أولئك الذين يتحمَّلون القسط الأكبر من المسئوليَّة ضمن الحالات المعروضة ، أصلاً ، على مكتب المدَّعي العام ، أو أيَّة حالات جديدة ، علاوة على التوصُّل إلى أشكال ضروريَّة للتعاون من أجل ضمان فعاليَّة التحقيقات ، ونجاح عمليات التوقيف ، وكذلك تحسين وسائل التعامل مع الضحايا ، ومخاطبة مصالحهم ، فضلاً عن تأسيس أشكال التعاون مع مختلف الدول والمنظمات لترفيع مستوى مساهمة المكتب في منع ارتكاب الجرائم والحدِّ من حالات الافلات من العقاب impunity. ب/ إستندت الاستراتيجيَّة إلى ثلاثة مبادئ جرى تطويرها خلال السنوات الثلاث المنقضية على بداية عمل المكتب: التكميليَّة الايجابيَّة ، وتركيز التحقيقات والادعاءات ، وأن ينصب مردود العمل على الحيلولة دون ارتكاب الانتهاكات مستقبلاً. ج/ شدَّدت الاستراتيجيَّة ، تحت مبدأ (التكميليَّة الإيجابيَّة) ، على الآتي: ج/1: أن الأولويَّة ، وفق (نظام روما) ، إنما تكون للدولة الوطنيَّة ، في ما يتصل بالمسئوليَّة عن منع ارتكاب الانتهاكات في أراضيها ، والمعاقبة عليها. ج/2: ترتيباً على ذلك فإن تدخل المحكمة لتولي الاختصاص بالتحقيق والمحاكمة على الجرائم الدوليَّة المرتكبة على أرض دولة معيَّنة لا يعتبر قاعدة ، بل استثناءً لا تقدم عليه إلا في إحدى حالتين: الحالة الأولى: فشل الدولة المعيَّنة في إجراء التحقيقات وتوجيه الاتهامات. الحالة الثانية: تظاهرها بذلك ، بينما هي ، في الحقيقة ، غير جادة على صعيدي (الرغبة) في القيام بذلك أو (القدرة) عليه. ج/3: لذا ، فقد اعتمد المكتب خطة إيجابيَّة تقوم على حثِّ الدول الوطنيَّة ، كلما أمكن ذلك ، على تولي الاجراءات المطلوبة بنفسها ، وبقدراتها الذاتيَّة ، مع إمكانيَّة الاعتماد في هذا على شبكة محليَّة ودوليَّة ومساهمة نشطة من التعاضد الدولي. (5) وخلال الثلث الأخير من نوفمبر 2006م ، وعلى هامش دورة الانعقاد الخامسة للجمعيَّة العموميَّة للدول الأعضاء في المحكمة ، عقد المدَّعي العام مؤتمراً صحفياً أعلن فيه أن مكتبه قد فرغ من تجهيز أول قضيَّة ضمن ملف دارفور ، وأنه على وشك تقديمها لمحكمة ما قبل المحاكمة المكوَّنة من ثلاثة قضاة ، والمختصَّة بالتقرير بشأن مقبوليَّة الدعوى. (6) وفي 27/2/07 عقد المدَّعي العام مؤتمراً صحفياً آخر أكد فيه أن مكتبه وضع ، بالفعل ، ملف هذه القضيَّة الأولى أمام محكمة ما قبل المحاكمة ، وكرَّر ، تقريباً ، نفس المعلومات التى كان قد أدلى بها في المؤتمر الصحفي السابق حول أن تحقيقاته شملت 17 بلداً ، وأنه جمع أكثر من 100 شهادة ، كما أنه اطلع على تقرير لجنة التحقيق الوطنيَّة التي كانت قد شكلتها حكومة السودان في وقت سابق ، فضلاً عن أنه أخذ إفادات شهود من داخل الحكومة نفسها ، على رأسهم وزير الدفاع! لكن الجديد فى ذلك المؤتمر هو إعلانه ، لأول مرة ، عن إسمي متهمَين اثنين ، والجرائم المنسوب ارتكابها إليهما ، وأدلة الاتهام التي يستند إليها. والمتهمان هما: أحمد محمد هارون ، وزير الدولة السابق بوزارة الداخليَّة ، ووزير الدولة الحالي بوزارة الشئون الانسانيَّة ، وعلي محمد علي عبد الرحمن (الملقب بكوشيب) ، من قادة الجنجويد. وقد وجَّه أوكامبو لكليهما 51 تهمة تتعلق بارتكابهما ، خلال الفترة ما بين أغسطس 2003م ومارس 2004م ، وأثناء حملات حربيَّة شنتها الحكومة على المتمردين فى نزاع مسلح غير دولي بإقليم دارفور ، (جرائم حرب) و(جرائم ضد الانسانيَّة) استهدفا بها السكان المدنيين ، وتشمل القتل والاغتصاب والتعذيب والاضطهاد وانتهاك الكرامة الانسانيَّة والحريات الشخصيَّة وتدمير الممتلكات وغيرها. وقال أوكامبو أنه قدَّم أدلته للقضاة ، حيث: أ/ ذكر أن أحمد هارون ، وبعد الهجوم الكبير الذي شنه المتمردون على مطار الفاشر (في 25/4/2003م) ، واعتبر نقطة تحوُّل فى تلك المواجهات المسلحة ، تم تعيينه رئيساً لمكتب أمن دارفور ، ثم وزير دولة بوزارة الداخليَّة. وبعد ذلك بفترة قصيرة تصاعد تنظيم ودعم مليشيا الجنجويد التي تفاقمت هجماتها ، ليس على المتمردين ، فحسب ، وإنما على قرى المدنيين بزعم أنهم هم الذين يدعمون المتمردين. وقد أصبحت هذه الاستراتيجيَّة مبرِّراً للقتل والاغتصاب وحرق القرى والهجير القسري للسكان من قراهم وإجبارهم على اللجوء أو النزوح. وكشف عن وثيقة من 100 صفحة قال إنه قدمها للقضاة ، ومفادها أن أحمد هارون كان يزور دارفور ، خلال تلك الفترة ، بشكل منتظم ، وصار معروفاً لدى السكان بوصفه هو مسئول الخرطوم المشرف على تعيين وتمويل ودعم الجنجويد من ميزانيَّة مفتوحة لا تخضع للمراجعة. وكان يسافر ومعه صناديق محروسة حراسة مشدَّدة ، وقد شوهد يتنقل بطائرة محمَّلة بالأسلحة والذخائر ، ويقوم بتسليمها شخصياً إلى الجنجويد في مختلف أنحاء الاقليم ، وأنه هو الذي حرَّض الجنجويد على الهجوم على قرى المساليت ، وأنه التقى بشكل رسمي بقائد الجنجويد ، ثمَّ ألقى ، عقب ذلك ، خطاباً جماهيرياً قال فيه: بما أن أطفال الفور أصبحوا متمردين ، فإن كل ممتلكات الفور أصبحت غنائم ، وإن للجنجويد أن يفعلوا ما يشاءون لأنهم يعملون تحت إمرة وزير الدولة بالداخليَّة ، فيمكنهم أن يمارسوا القتل وغيره طالما كان ذلك لأجل السلام في دارفور. ب/ وقال إن علي أحمد علي عبد الرحمن (كوشيب) كان الشخص الذي يقود الجنجويد ، وإنه قد شوهد ، عام 2003م ، يصدر الأوامر بإطلاق النار على مدنيين عُزَّل أثناء هروبهم ، وإنه قد تمَّ ، تحت إشرافه المباشر ، اغتصاب جماعيُّ متكرِّر لعدد من النساء تحت شجرة ، وإنه شارك ، شخصياً ، في عدد من الاعدامات ، من بينها إعدام 32 شخصاً في واقعة بعينها. ج/ وبناءً على ما تقدم اعتبر أوكامبو هذين المتهمين مسئولين عن أكثر (جرائم الحرب) و(الجرائم ضد الانسانيَّة) التي ارتكبت في الاقليم ، مشيراً إلى أنه ليس معنيَّاً بالتشكيك في القضاء السوداني ، بقدر ما هو معنيٌّ بكون السودان لم يتخذ أىَّ إجراءات إزاء هذه الجرائم وهذين المتهمين. وأكد ، في الختام أن مكتبه ما زال مستمراً في جمع المعلومات عن الجرائم الأخرى ، بما فيها تلك التى لا تزال ترتكب حالياً ، على حدِّ تعبيره ، وأن دورهم هو تقديم الأدلة إلى المحكمة ، وهي التي تتخذ القرار بشأن مقبوليَّتها ، مشدِّداً على أن الهدف من ذلك هو الحيلولة دون وقوع مثل هذه الجرائم مستقبلاً ، وإرسال رسالة واضحة بأن المجرمين لا يمكن أن يفلتوا من العقاب. (7) وبتاريخ 2/5/2007م ، قضت (محكمة ما قبل المحاكمة) بمقبوليَّة الدعوى وأدلة الادعاء ، ومن ثمَّ بإصدار مذكرتي توقيف بحق المتهمين المذكورين ، حيث شدَّدت على "أن القرار 1593 الصادر عن مجلس الأمن يفرض على الحكومة السودانيَّة والأطراف المعنيَّة التعاون مع المحكمة" (السوداني ، 3/5/2007م). (8) فور صدور ذلك القرار سارع المدَّعي العام إلى مطالبة السودان بالالتزام بالقانون ، وتوقيف المتهمين ، باعتباره البلد الذي يقيمان على أرضه ، قائلاً: "الأمر يتعلق بقرار صادر عن المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، وعلى الحكومة أن تعترف به" (المصدر). (9) وبتاريخ 7/6/2007م ، إستمع مجلس الأمن ، في جلسة مغلقة ، إلى تقرير المدَّعي العام الدوري نصف السنوي الذي دعا فيه الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ، وفي مجلس الأمن بالأخص ، وكذلك أطراف (نظام روما) ، كما خص بالدعوة مصر وليبيا وأثيوبيا وإرتريا ، علاوة على المنظمات الاقليميَّة كالجامعة العربيَّة والاتحاد الأفريقي ، إلى التعاون غير المشروط في تنفيذ أمر التوقيف الصادر ضد المتهمين ، والضغط على السودان لتسليمهما ، حيث تمكن من الحصول على تعهُّد من مجلس الأمن بإثارة هذه القضيَّة أثناء زيارة أعضاء المجلس المعتزمة إلى الخرطوم في السابع عشر من ذات الشهر (الرأي العام ، 8/6/07).
ثالثاً: خيار المواجهة الخطأ: (1) وقع السودان على ميثاق الأمم المتحدة وانضم إليها منذ استقلاله عام 1956م ، فأصبح ملزماً بما تصدره من اتفاقات وقرارات تشكل أساس الشرعيَّة الدوليَّة. وكما سنرى لاحقاً فإن التزام أية دولة بأيَّة اتفاقيَّة توقع أو تنضم إليها لا يتناقض مع مبدأ (السيادة) ، بل هو ، فى حقيقته ، (ممارسة) لعمل من أعمال (السيادة). (2) بالتالي يقع إلتزام السودان ، كعضو فى الجماعة الدوليَّة ، بقرارات وإجراءات المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة من زاويتين: أ/ أن السودان كان قد وقع في 8/9/2000م ، خلال احتفالات الأمم المتحدة بالألفية الثالثة ، على (نظام روما لسنة 1998م) الذي تأسَّست بموجبه المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة (راجع "قائمة الدول الموقعة" فى أكثر من مصدر ـ مثلاً: م. ش. بسيونى ، 2004م). ورغم كونه لم يصادق على توقيعه ، بعد ، إلا أنه ، أيضاً ، لم يسحبه ، مِمَّا يلزمه ، بموجب المادة/19 من (معاهدة فيينا للاتفاقيات الدوليَّة لسنة 1969م) ، بعدم اتخاذ أىِّ إجراء من شأنه إعاقة تنفيذ ما وقع عليه ، أي ، في الحالة الراهنة ، عمل المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة. ب/ أن (إحالة) الملف إلى هذه المحكمة من مجلس الأمن قد تمت ، كما سلفت الاشارة ، بموجب المادة/13/ب من (نظام روما) ، مقروءة في ضوء الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة. ومن المعلوم أن (الاحالة) من المجلس إلى المحكمة هي إحدى ثلاث طرائق لفتح أيِّ تحقيق وتأسيس أيِّ إجراءات أمام هذه المحكمة ، أما الطريقتان الأخريان فتتحققان إما بطلب من الدولة المعنيَّة نفسها (م/13/أ) ، كما في حالتي يوغندا والكونغو ، أو إذا قرَّر المدَّعي العام ذلك ، من تلقاء نفسه ، بناءً على معلومات بلغته بأيَّة وسيلة (م/13/ج). كما ومن المعلوم أنه ، وبموجب الفصل السابع: ب/1: تنعقد لمجلس الأمن منفرداً السلطة التقديريَّة فى تقرير ما إذا كان قد وقع أو لم يقع أىُّ تهديد للسلم العالمى أو أىُّ إخلال به ، وأن يتخذ من التدابير ما يراه مناسباً لإعادة الأمور إلى نصابها (م/39). ب/2: تكون له سلطة أن يتخذ من التدابير ، لإنفاذ قراراته ، ما لا يتطلب استخدام القوة المسلحة ، وأن يطلب إلى الدول الأعضاء تطبيقها ، كقطع العلاقات الدبلوماسيَّة ، ووقف الصلات الاقتصاديَّة ، والمواصلات الحديديَّة والبحريَّة والجويَّة والبريديَّة والبرقيَّة واللاسلكيَّة وغيرها ، جزئياً أو كلياً (م/41). ب/3: تكون له ، فى حالة ما إذا رأى أن التدابير أعلاه غير كافية ، سلطة استخدام القوات البريَّة والبحريَّة والجويَّة التابعة للدول الأعضاء (م/42). ب/4: تعتبر الدول الأعضاء متعهدة بأن تضع تحت تصرُّفه ما يلزمه من قوات ، وكل التسهيلات الأخرى بما فيها حق المرور (م/43). ب/5: يكون له أن يقرِّر بشأن الأعمال التى يطلب إلى الأعضاء القيام بها (م/48). ب/6: يتضافر الأعضاء فى تنفيذ تدابير المجلس (م/49). (3) إذن فقد مارس مجلس الأمن سلطته ، بموجب هذه النصوص ، في إحالة ملف دارفور إلى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، فى أول سابقة من نوعها. وشرعت المحكمة ، بدورها ، في اتخاذ الاجراءات اللازمة حياله بموجب (نظام روما). فتعيَّن على النظام السودانى أن يختار بين طريقين لا ثالث لهما: أ/ فإما أن يقرِّر مصادمة المحكمة ، ومن ورائها المجلس ، فى ظلِّ ظرف وطنى وإقليمى غير مواتٍ ، أقله تفكك جبهته الداخليَّة سياسياً وعسكرياً ، فيضع نفسه والبلاد بأسرها فى مواجهة غير محسوبة مع الفصل السابع ، وأهون مآلات هذه المواجهة العزلة عن الجماعة الدوليَّة ، بكلِّ ما يترتب على ذلك من تبديد حتى للأرصدة الشحيحة التى ظلَّ النظام يعوِّل عليها فى علاقاته الخارجيَّة حتى الآن ، إذ لن يستطيع إقناع أحد ، غداً ، بما فى ذلك الصين وروسيا ، بمساندته فى (جردته) الشعواء على المجتمع الدولى ومواثيقه التى ما تزال تمثل ، بخيرها وشرِّها ، أساس الشرعيَّة الدوليَّة ، ب/ أو أن يستمسك جيِّداً بشرعيَّة وضعه ضمن الجماعة الدوليَّة ، فيتقن التعاطى مع استحقاقات قرارات وإجراءات المجلس والمحكمة ، مستبصراً مواطئ أقدامه وسط تيارات الاستراتيجيات الدوليَّة المتلاطمة ، بكل ما يفرضه منطق العلاقات والقانون الدوليَّين فى الظرف الراهن. (4) إختارت حكومة السودان ، للأسف الشديد ، ومنذ الوهلة الأولى ، السير بالطريق الأول ، وبمنهج ملتبس ومرتبك يتقاطع فيه خطاباها (القانوني) و(السياسي) حيناً ، ويتطابقان حيناً آخر ، ويحلان محلَّ بعضهما البعض أغلب الأحيان ، دون أن تنجح ، ولو مرَّة واحدة ، في تأسيس أية حجَّة يؤبه لها ، وبالأخص الحُجَّة الوحيدة التي كان مفترضاً فيها التركيز عليها ، حسب مقتضى المادة/1 من (نظام روما) ، وهي إثبات زعمها بتوفر عنصري (الرغبة) و(القدرة) لديها فى تعقب ومحاكمة ومعاقبة الجناة لمنع الافلات من العقاب ، بما يحمل مجلس الأمن على أن يطلب من المحكمة عدم البدء أو ، على الأقل ، عدم السير فى إجراءات التحقيق أو المقاضاة Deferral ، حسب المادة/16 ، أو بما يمكنها من استصدار قرار من (محكمة ما قبل المحاكمة) بعدم مقبوليَّة الدعوى ، تحت المادة/17/أ. وغنيٌّ عن القول أن السبيل الوحيد الذي كان من الممكن أن يؤهِّلها لإثارة مثل هذا الحجاج القانونيِّ المستقيم هو أن تتجِّه ، بالجديَّة كلها ، لتأسيس الاجراءات القانونيَّة الكفيلة بفتح البلاغات ضد الجناة وملاحقتهم والتحقيق معهم تمهيداً لتقديمهم لمحاكمات عادلة أمام قضاء مستقل ، في ما لو كان بمستطاعها ذلك ، وكانت هي نفسها جزءاً من الحلِّ ، لا جزءاً من المشكلة! (5) هكذا اعتمدت الحكومة خيار المواجهة الخاطئة مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، على النحو الآتي: أ/ أنكرت ، في البداية ، أيِّ التزام يمكن أن يُحسب في حقها تجاه هذه المحكمة ، استناداً إلى المغالطة ، فحسب ، بشأن توقيع السودان على (نظام روما) ، حسبما أبلغ وزير العدل النائب العام ، فى منتصف أكتوبر 2005م ، سيما سمر ، المقررة الخاصة لحقوق الانسان فى السودان ، قائلاً إن ".. السودان غير ملزم وغير خاضع لقوانين المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة نظراً لعدم توقيعه على اتفاقيَّة روما!" (الرأى العام ، 18/10/2005م). وهي مغالطة مكشوفة ، بطبيعة الحال ، كون الثابت ، كما سبق وأشرنا ، أن السودان قد وقع فى 8/9/2000م على (نظام روما) الذى أرسى الأساس القانونى الدولى لهذه المحكمة. ب/ ثم ما لبثت الحكومة أن عدَّلت تلك المغالطة ، لاحقاً ، إلى ما بدا لها ، خطأ ، أنه قد يقوم مقام الحُجَّة المُفحِمة ، بقولها إن السودان لم يصادق على ذلك (النظام). وهي حُجَّة واهية تماماً ، بالنظر لما سبق أن أوردنا من أن إحالة ملف دارفور من جانب مجلس الأمن إلى المحكمة قد تمَّ بموجب سلطاته تحت المادة/13/ب ، مقروءة في ضوء الفصل السابع من الميثاق ، الأمر الذي لا يتطلب المصادقة ، أو حتى التوقيع ، على (نظام روما) ، بعكس انعقاد الاختصاص للمحكمة تحت المادتين/13/أ أو 13/ج اللتين تتطلبان ، بالضرورة ، موافقة الدولة المعنيَّة. ج/ وما أن أدركت الحكومة ضعف حُججها بهذا الاتجاه ، حتى تحوَّل خطابها ، في واحد من أخطر انقلاباته غير المنطقيَّة البتة ، بل والعدميَّة تماماً ، لا ليحتج (قانونياً) ، كما كان الأمر في البداية ، على مجرَّد إحالة الملف إلى المحكمة ، بل ليشجب هذه المحكمة نفسها (سياسياً) بلا هوادة ، في كلِّ مناسبة ، وكلِّ منبر ، وعلى ألسنة كلِّ رسميي الحكومة ، وبأقلام جميع صًحفييها وإعلامييها ، بزعم أنها محض ثمرة (للاستكبار الدولي) ، وأداة (للهيمنة) و(التسلط) ، ومعول لهدم (السيادة الوطنيَّة) ، وليعلن ، من فوق ذلك كله ، عدم استعداد السودان للتعاون معها ، بل و(ليُعَمِّد) كلَّ من لا يوافق على هذه السياسة (خائناً أعظم)! هذه المسألة تثير ، من فورها ، ملاحظتين في غاية الأهميَّة: الملاحظة الأولى: أن الحكومة وضعت نفسها ، بموجب هذا الخطاب ، أمام قضيَّة منطقيَّة لا فكاك لها من مجابهتها سياسياً وأخلاقياً: فإما أنها ، عندما وقعت على (نظام روما) ، وهو أمر ثابت كما قد رأينا ، لم تكن تعلم بالطبيعة (الاستكباريَّة) و(التسلطيَّة) لمؤسَّسة (الهيمنة الدوليَّة) التى ينشئها ، أو أنها كانت تعلم ورغم ذلك وقعت تضعضعاً وضعفاً! وأيُّهما كان خيارها فهو ، بلا شك ، أمرُّ من الآخر! الملاحظة الثانية: أن مجابهة الحكومة مع المجتمع الدولي خطت ، في هذا الشأن ، خطوة أخرى أكثر وسعاً ، وأقل تحسُّباً ، لا في المستوى الرسمي ، فحسب ، بل وفي المستوى الشعبي المدني أيضاً! فالمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة لم تتأسَّس ، مطالع هذا القرن ، كمحض عمل من أعمال العلاقات التواثقيَّة بين الدول ، فحسب ، بل أيضاً كتتويج لجهد مدنيٍّ خارق ، وحملة شعبيَّة عالميَّة ضارية شارك فيها ، على مدى عشرات السنوات ، ملايين الناس من شتى الأقطار ، وآلاف الأحزاب والتنظيمات السياسيَّة ، والمنظمات الطوعيَّة والانسانيَّة ، والمراكز الأكاديميَّة والبحثيَّة ، والجمعيات العلميَّة والثقافيَّة والاجتماعيَّة ، والمؤسَّسات الصحفيَّة والاعلاميَّة المستقلة ، من مختلف المدارس والاتجاهات الفكريَّة الديموقراطيَّة. ولا تزال هذه الحملة تتصاعد ، في الوقت الراهن ، بتنسيق من (التحالف الدولي من أجل المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة CICC) ، للدفع باتجاه المزيد من الانضمام إلى (نظام روما) ، إما بالتوقيع بالنسبة للدول التي لم توقع بعد ، أو باستكمال إجراءات المصادقة ، كما في حالة السودان. والأهم من ذلك كله إثارة الاهتمام وخلق الوعي بضرورة هذه المؤسَّسة العدليَّة الجنائيَّة الدوليَّة ، وجدواها بالنسبة للشعوب وللمدنيين العاديين من ضحايا الانتهاكات ذات الطابع الدولي بالأساس. تلك هي الحقيقة الابتدائيَّة الأساسيَّة التي ينبغي أن توضع نصب الأعين دائماً ، وألا تغيب عن الأذهان لحظة ، عند أيِّ حديث عن هذه المحكمة ، لكونها مطلباً ديموقراطياً عالمياً ، لا مجرَّد مؤامرة (استكباريَّة) دوليَّة! د/ مع ذلك ، فإن حُجَّة (السيادة الوطنيَّة sovereignty) التي تثيرها الحكومة بصورة مقلوبة على رأسها ، خليقة بالتوقف عندها لاستعدالها معرفياً على النحو الآتي: د/1: من المعلوم أن ممارسة الدولة لوظائفها الخارجيَّة قد أفضت ، منذ القرن السابع عشر ، إلى نشأة القانون الدولى المعاصر باعتباره جماع القواعد الدوليَّة التى تستمدُّ محدِّداتها من مستوى التطوُّر التاريخى لظاهرة الدولة نفسها ، كما وللاقتصاد السياسى لعلاقاتها الخارجيَّة فى مختلف المراحل التاريخيَّة. وقد كرَّست (معاهدة وستفاليا لسنة 1648م) أهمَّ تلك المحدِّدات فى (سيادة) الدولة الحديثة على مجالها الداخلى ، وإن كانت قد أسَّست ، فى ذات الوقت ، للتنظيم الدولى الذى سوف يؤثر ، لاحقاً ، على ذلك المفهوم الكلاسيكى (للسيادة). هكذا اعتبر الآباء المؤسِّسون لعلم القانون الدولى الكلاسيكى الدولة الحديثة ذات (السيادة) ، داخلياً وخارجياً ، بمثابة الشخصيَّة الأساسيَّة بالنسبة للقانون الدولى ، مثلما اعتبروا الاتفاقيات والمعاهدات ، ثنائيَّة كانت أم جماعيَّة ، بمثابة المصدر الرئيس للقاعدة القانونيَّة الدوليَّة. د/2: كان ذلك هو نفس الفقه التقليدى الذى تأسَّس عليه ميثاق المنظمة الدوليَّة بعد الحرب الثانية. فباستثناء تدابير الفصل السابع ، تمنع المادة/2/7 من الميثاق تدخل المنظمة الدوليَّة فى الشئون الداخليَّة لدولة ما. وتمنع المادة/2/4 الدول الأعضاء من استخدام ، أو التهديد باستخدام ، القوة فى علاقاتها الدوليَّة بما لا يتفق ومقاصد المنظمة. كما يحظر (إعلان مبادئ القانون الدولى الخاص بالعلاقات الوديَّة والتعاون بين الدول لسنة 1970م) التدخل فى شئون أيَّة دولة. ومع أن هذا وغيره مِمَّا يندرج ضمن القواعد المُعززة (للسيادة) بمفهومها التقليدى المطلق ، إلا أن ثمة حالات تخفف من هذا الاطلاق ، حتى فى ذلك الإطار ، حين يجرى ، مثلاً ، التنازل عن (السيادة) في أمر ما ، وبموجب معاهدة ما ، فيصبح من غير الجائز قانوناً سحب هذا التنازل من قِبَل أىِّ طرف بإرادة منفردة ، أخذاً فى الاعتبار بأن التنازل نفسه يقع كعمل من أعمال (السيادة). وتطبيقاً لهذه القاعدة ".. لا يجوز الادعاء بعدم مشروعيَّة التدخل الاجنبى إذا استند إلى نص اتفاق دولى .. و .. يكتسب التدخل الدولى للاسباب الانسانيَّة مشروعيَّته ، حتى فى الاطار التقليدى لمفهوم (السيادة) ، على أساس أن احترام حقوق الانسان أصبح من الالتزامات الدوليَّة الراسخة بموجب العهود والمواثيق الدوليَّة والاقليميَّة والقانون الدولى العرفى ، وبالتالى تكتسب هذه الالتزامات صفة القواعد الآمرة Jus Cogens" (ف. الشيخ ، 1998م). د/3: لكن السياق الذى ارتقت فيه علاقات السياسة الداخليَّة إلى آفاق أكثر ديموقراطيَّة وأنسنة ، فتح العلاقات الدوليَّة والقانون الدولى ، كما قلنا ، باتجاه رعاية مصالح الأفراد والشعوب ، والاهتمام أكثر فأكثر بتطبيقات القانون الدولى الانسانى ، وحقوق الانسان ، ومسائل الديموقراطيَّة والحكم الراشد ، والهجرة واللاجئين ، وإشاعة الشفافيَّة ، والتنمية ، وحماية البيئة ، ومحاربة الفقر والفساد والإيدز وغسيل الأموال وتجارة المخدرات. فأصبح فى رأس أولويات المجتمع الدولى الآن ".. الاهتمام المتزايد بما يُعرف بالسياسات الدنيا على حساب السياسات العليا .. هذه القضايا أصبحت تحظى بنفس الاهتمام الذى تحظى به قضايا الحرب والارهاب والتسلح" (ص. فانوس ؛ "الوحدة" ، 17/12/2005م). د/4: إنسحبت هذه التطوُّرات أيضاً على المفهوم التقليدى (للسيادة الوطنيَّة) ، حيث يؤكد أغلب كتاب القانون الدولى الآن على أن علاقة الدولة بمواطنيها أضحت تكفُّ عن أن تكون محض شأن داخلى فى ذات اللحظة التى يتسبب فيها سلوكها نحوهم فى كوارث إنسانيَّة ، خصوصاً إذا امتدت آثارها إلى دول أخرى. لذلك كان لا بُدَّ أن يتراجع ذلك المفهوم (المقدَّس) لصالح القواعد التى تقضى بالتدخل الدولى لأسباب إنسانيَّة فى مجتمع دولى تشبَّع بعالميَّة مبادئ حقوق الانسان ، والديموقراطيَّة بمعاييرها الدوليَّة ، مِمَّا يوجب على الدولة مراعاة التزامات معيَّنة تجاه مواطنيها ، فإن هى أخفقت فيها ، تحتم على المجتمع الدولى إجبارها عليها (و. عبد الناصر ؛ 1996م). د/5: هكذا تراجع مفهوم (السيادة) القديم ، ولم تعُد الدولة تملك حق التصرُّف المطلق فى حقوق شعبها ومواطنيها ، بل انفتح المفهوم ليشمل ، بدعم ومؤازرة دوليَّة ، رسميَّة ومدنيَّة ، وباستخدام آليات الاعتماد المتبادل ، (سيادة) هؤلاء أيضاً على هذه الحقوق ، فأصبح لزاماً على الدولة الحديثة أن توازن بين حقوقها هى وحقوق مواطنيها. وقد عبَّر السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة ، د. بطرس غالى ، عن ذلك بقوله إنه ، ورغم أن الدولة ما تزال هى حجر الزاوية فى القانون الدولى ، إلا أن زمان (السيادة المطلقة) قد ولى ، مِمَّا يحتم على قادة الدول السعى لإيجاد التوازن المطلوب بين ضرورات الحكم الراشد ومتطلبات عالم يُعزز الاعتماد المتبادل. كما قال أيضاً ، فى كلمته الافتتاحيَّة أمام (المؤتمر العالمى لحقوق الانسان ـ فيينا 1993م): إن المجتمع الدولى يوكل إلى الدولة مهمة حماية الأفراد ، ولكن يتوجب عليه أن يحل محلها حالَ فشلها فى التزاماتها (ضمن: ف. الشيخ ، 1998م). د/6: ومع ذلك يجدر بنا أن نؤكد أنه ليست لدينا أيَّة أوهام حول أن اختلالات ميزان القوة الدولى الراهن قد يتيح ثغرات لاستخدام هذه الدلالة الجديدة لمفهوم (السيادة) كذريعة لتحقيق أجندات خاصَّة بقوى الهيمنة الدوليَّة. غير أن ذلك يُعدُّ بمثابة (الأثر الجانبى) للعلاج. ونتفق تماماً مع ما ذهب إليه بعض الأكاديميين ، من أن "هذا لا يغير من الواقع الدولى الراهن الذى أصبح يتعامل مع قضايا حقوق الانسان باعتبارها الهدف الاسمى الذى يجب أن تسعى الدول للارتقاء إليه ، وإلا وجدت نفسها فى حالة عداء مع المجتمع الدولى ، حيث لن تشفع لها مقولة حقها فى السيادة الوطنيَّة" (ص. فانوس ؛ "الوحدة" ، 17/12/2005م). هـ/ لكن وزير العدل النائب العام لحكومة السودان ، التي لا تكاد تكف عن المراوحة المرتبكة بين الموقف ونقيضه ، عاد ليبلغ مستشار الأمين العام للأمم المتحدة المختص (بالابادة الجماعيَّة) ، لدى زيارة الأخير للسودان فى نهاية سبتمبر 2005م ، وبلهجة أقرب لعرض حال العجز ، بعد كلِّ لهجة الصلف التي كانت قد اعتمدتها حكومته في ذمِّ المحكمة ومسانديها ، قائلاً إن "عدة صعوبات تحول دون ملاحقة المتهمين .. الأغلبية لاذت بالفرار واحتمت بقبائلها وأصبح متعذراً معرفة مواقعهم على وجه التحديد أو القرى التى يوجدون فيها .. هؤلاء المتهمون متنقلون وليسوا ثابتين .. الشهود أنفسهم يختفون أحياناً خشية على أنفسهم!" (الرأى العام ، 28/9/2005م). ثم ما لبث أن طلب من هذا المستشار الدولى ، وفي ذات هذا السياق الاعتذاري ، أن يعقد (مقارنة) بين فشل السودان فى القبض على المتهمين ، وبين فشل بريطانيا فى الوصول إلى منفذى تفجيرات لندن آنذاك (الرأى العام ، 28/9/2005م). أهم ملاحظتين يمكن أن تردا على هذا التصريح الخطير هما: هـ/1: أن مستشار الأمين العام للمنظمة الدوليَّة ليس ملزماً بعقد المقارنة التى طلبها الوزير لسببين: السبب الأول: وببساطة ، أن هذا ليس من اختصاصه. السبب الثاني: وببساطة أكثر ، أن المقارنة المطلوبة نفسها منعدمة ، لكون المادة/8 من (نظام روما) تفرِّق بوضوح بين المنازعات المسلحة التى تقع فى إقليم دولة يوجد فيها صراع مسلح متطاول الأجل تشنه جماعات مسلحة منظمة ضد السلطات الحكوميَّة أو ضد بعضها البعض ، وبين أعمال الشغب أو أعمال العنف المنفردة أو المتقطعة .. الخ. هـ/2: أن المعيار الأساسى الذى تقوم بموجبه ولاية المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة كقضاء مكمِّل complementary للولاية القضائيَّة الجنائيَّة الوطنيَّة ، هو توفر واحدة على الأقل من حالتين: الحالة الأولى: أن تكون الدولة بأجهزتها العدليَّة والقضائيَّة كافة (غير قادرة) على تعقب الجناة والقبض عليهم وتقديمهم للمحاكمة ، أو الحالة الثانية: أن تكون هذه الدولة (غير راغبة) فى ذلك حتى بافتراض توفر (القدرة) لديها. هذه القاعدة الأساسيَّة التى تحكم عمل المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، والتى تقرِّر ، أصلاً ، بشأن انعقاد أو عدم انعقاد اختصاصها أو ولايتها ، تكفى للكشف عن مدى خطورة تطوُّع المسئول الأول عن سيادة حكم القانون فى البلاد بالإعلان الجهير عن أن دولته (غير قادرة) حتى على معرفة أماكن المتهمين ، دَعْ القبض عليهم ومحاكمتهم! و/ ويبدو أن إدمان الارتباك (القانوني) و(السياسي) قد دفع بالموقف الرسمى اليائس إلى التوغل بعيداً في طمي لبيكٍ من الارتباك (الأخلاقي) أيضاً! ومن أمثلة ذلك: و/1: لجأت الحكومة إلى تجريب اللعب الخطر من تحت الطاولة ، بدلاً من شفافيَّة الموقف المستقيم ، قانونياً وسياسياً وأخلاقياً! فعلى الرغم من كلِّ تشدُّدها المُعلن في رفض الاعتراف بهذه المحكمة ، إلا أن المدعى العام لويس مورينو أوكامبو كشف ، فى تقريره الدورى سالف الذكر ، أمام جلسة مفتوحة لمجلس الأمن عقدت صباح 13/12/2005م ، أن الحكومة السودانيَّة قد (تعاونت!) معه ، فعلياً ، بشكل (جيِّدً!) ، خلال الفترة السابقة على التقرير ، وأنها وافقت ، فى ذلك الإطار ، على استقبال وفد من مكتبه ، فى فبراير 2006م ، كي يتفقد ".. سير المحاكم الوطنيَّة ومدى مطابقتها للمعايير الدوليَّة ونظام روما!" ، مُعرباً عن تطلعه "إلى مزيد من التعاون الايجابى"! (الصحافة ، 14/12/2005م). و/2: سارعت الحكومة ، من جانبها ، وبصرف النظر عن نكوصها اللاحق في سياق أدائها المرتبك ، إلى تثمين التقرير إيجابياً ، حيث وصفته بعثة السودان إلى الأمم المتحدة بأنه "جاء .. متوازناً ومهنياً لأن هناك تعاوناً ، بالفعل ، من جانب الحكومة ، ومساع لتحقيق العدالة لوضع حدٍّ لحالات الافلات من العقاب" (المصدر). ووصفه وزير العدل النائب العام بأنه "موضوعى ومنصف للسودان" ، كما اضطر للاقرار بالزيارة التي كشف عنها أوكامبو في تقريره ، والتي قام بها للبلاد ، بموافقة الحكومة دون إعلان ، وفد من مكتب المدَّعي العام فى 17/11/2005م ، وإجرائه مباحثات مع الوزارات المختصَّة ، و".. طرحنا لهم الخطوات التي اتخذتها الحكومة من تكثيف للتحريات وتفعيل للنيابات وتنشيط للمحاكمات" ، وقال إنه لم يكن من المناسب الاعلان عن الزيارة "حتى لا يساء فهمها!" (المصدر). و/3: لكن تصريحات وزير العدل ما لبثت أن انقلبت ، فجأة ، لتتقاطع ، بلهجة عدائيَّة ظاهرة ، مع تقرير أوكامبو ، بالتشديد على أنه "يظهر خلاف ما يبطن" ، وأن الحكومة "لن تسمح لمحققى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة بدخول دارفور!" ، وأنهم "ليس لهم اختصاص داخل السودان!" ، وأن تحقيقهم نفسه "ليس ضرورياً!" ، مع ملاحظة أنه تفادى ، هذه المرَّة ، تكرار حُجَّته السابقة بأن السودان لم يوقع على نظام روما (المصدر). لذلك لم يكن مستغرباً ، بإزاء تلك التصريحات المتشدِّدة ، أن ينقلب أوكامبو ليرفض ، فى اليوم التالى مباشرة ، تحديد أىِّ "مدى للتعاون الذى تبديه السلطات السودانيَّة حيال التحقيق فى جرائم دارفور!" ، ساحباً إفصاحه الجهير السابق ، وليجاريه فى ذلك كوفى أنان ، الأمين العام السابق للمنظمة الدوليَّة ، الذي أكد أن "من السابق لأوانه معرفة ما إذا كانت الحكومة السودانيَّة تتعاون مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة بشأن التحقيقات التى تجريها فى انتهاكات دارفور!" (الصحافة ، 15/12/2005م). كما لم يكن مستغرباً ، بطبيعة الحال ، ألا يفوِّت مندوب بريطانيا لدى الأمم المتحدة ، الفرصة التى واتته للتصعيد ، خاصة أن حكومته كانت قد تحفظت ، فى مجلس الأمن ، على الاشادة (بتعاون) السودان ، فانطلق يعلن: "أن هناك سلطة مركزيَّة تشرف على الخروقات فى دارفور .. وسيتمُّ تتبع المسئولين إلى أن يتمَّ الوصول إلى الرأس الذى يعطى أوامر هذه الخروقات!" (المصدر). و/4: فى إثر ذلك التصعيد المفاجئ ، ما لبث الوزير أن تراجع ، بشكل غير منتظم ، ليعلن "ترحيبه!" بمقدم بعثة يعتزم المدعى العام إرسالها فى فبراير 2006م ، وتأكيده "استعداد الحكومة للتعاون والتجاوب معها!" (المصدر). على أن الأمر الجديد والمحيِّر حقاً ، هذه المرَّة ، هو تشديد الوزير على ما أسماه "بإمكانيَّة (التكامل!) بين المحكمة الدوليَّة والمحاكم الوطنيَّة التى باشرت أعمالها فى دارفور لمحاكمة المتورِّطين فى أحداث الاقليم" ، والتي سنعرض لها لاحقاً ، إذ يخلو لفظ (التكامل) ، فى هذا السياق ، من أيَّة دلالة قانونيَّة محدَّدة ، فالمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة لا (تتكامل) مع المحاكم الوطنيَّة ، وإنما ينعقد لها اختصاص (تكميلي) حال ثبوت (عدم رغبة) الدولة المعيَّنة في ، أو (عدم قدرتها) على ، تعقب الجناة وتقديمهم للمحاكمة. أما وصف الوزير ، فى خاتمة تصريحه الجديد ، للاجراءات التى اتخذتها حكومته بأنها (يجب!) أن تفسَّر "بأننا نقوم بعمل طيِّب ومقنع للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة" (المصدر) ، فهو مؤسَّس ، فقط ، على افتراض هذا (الوجوب) تعسُّفاً ، دون توفر (أشراطه) المنطقيَّة! ذلك أن قضيَّة العدالة لا تخرج ، فى التقدير النهائي ، عن أحد ثلاثة احتمالات: فإما أن تنجزها الدولة الوطنيَّة داخلياً ، وبجديَّة مقنعة بالمعايير الدوليَّة ، وإما أن تتقاعس عنها فتتولاها المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، وإما أن تواصل هذه الدولة تعنُّتها ، فلا هي تقوم بها ولا هي ترضى بأن تقوم بها المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة! فإذا طرقت الدولة سبيل (العدالة الوطنيَّة) كفى الله المؤمنين القتال ، أما إذا تركت الأمر يتداعى باتجاه المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة فإن (تعاونها) سوف يصبح لازماً بموجب القانون الدولي ، وأما إذا أصرَّت على تجميد الأمر برمته فى خانة الخيار الثالث فلن ينتهى بها سوى للمغامرة (بحشر) البلاد والعباد ، وليس نفسها فحسب ، فى (مصيدة) الفصل السابع ، وذلك ، بالقطع ، (رقص) لا تملك له (شعراً) فى ساحة موازين القوة الدوليَّة والاقليميَّة الراهنة! هذا هو ، بالحق ، منطق الأشياء كما يفهمه (المجتمع الدولى). وعلى حدِّ تعبير رئيس تحرير جريدة (الصحافة) المنسوب إلى الحزب الحاكم ، معلقاً على (الحيل) التي درجت الحكومة على اتباعها لتتفادى تحمُّل مسئولياتها تجاه العدالة ، فإن هذا المجتمع الدولي ".. لم يعُد يثق بلجان الحكومة واقتراحاتها ووعودها ، وليس هذا من فراغ ، فالحكومة ثبت أن هوايتها المراوغة .. وما تمثيليات القبض على قطاع الطرق باعتبارهم جنجويد ومحاكمتهم بتلك الطريقة المضحكة إلا نموذجاً لنوعيَّة تلك الألاعيب الصغيرة التى لم تجدِ وأفقدت النظام مصداقيَّته" (عادل الباز ؛ المصدر). و/5: ومع رفضها (التعاون) مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، أقدمت الحكومة ، في نوفمبر 2005م ، حسبما أوردت صحيفة (النيشن) الكينيَّة ، على إبرام اتفاق مع حكومة يوغندا ، تتعاونان ، بموجبه ، على (تنفيذ!) مذكرة توقيف بحق زعيم (جيش الرب) جوزيف كونى وثلاثة من كبار معاونيه ، صادرة من نفس هذه المحكمة التي ما تنفك الحكومة السودانيَّة تعلن ، صباح مساء ، عن عدم اعترافها بها! و/6: كما درجت الحكومة ، أيضاً ، على المشاركة بنشاط في كلِّ دورات انعقاد الجمعيَّة العامََّة (للدول الأعضاء!) في هذه المحكمة ، وقد كانت آخر هذه المشاركات في دورة الانعقاد الخامسة ، بلاهاي ، أواخر نوفمبر 2006م. ز/ ومع أن تلك النماذج وغيرها ترتب على الحكومة حُجَّة أخلاقيَّة وسياسيَّة تحول دون إعلانها عدم الاعتراف بالمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، وإجراءاتها ، ومذكراتها التي أضحى يتعيَّن عليها أن "تبلها وتشرب ماءها!" ، على حدِّ تعبير وزير العدل في تعليقه على إعلان أوكامبو ، في 27/2/2007م ، عن تقديمه أدلة الاتهام ضد (هارون وكوشيب) أمام (محكمة ما قبل المحاكمة) لأغراض التقرير بشأن مقبوليَّة الدعوى ، فقد عادت الحكومة لتكرِّر ، مؤخراً ، وفي مناسبتين أخريين على الأقل ، نفس الموقف المتعنت الرافض (للتعاون) مع المحكمة: المناسبة الأولى: عندما كشفت الصحف عن مذكرة كان قد بعث بها المدَّعي العام الدولي إلى الحكومة ، عن طريق سفارتها بهولندا ، بتاريخ 12/4/2007م ، يستفسر فيها عمَّا سيكون عليه موقفها من تسليم أو إصدار مذكرتي توقيف في حق المتهمين (هارون وكوشيب) ، في ما لو صدر قرار (محكمة ما قبل المحاكمة) بقبول الدعوى ، وذلك على خلفيَّة التصريح الذي كان قد أدلى به هارون للصحف وأجهزة الاعلام ، وأكد فيه أنه لا مانع لديه من تسليم نفسه إذا رأت حكومته ذلك! وأمهل أوكامبو الحكومة حتى 30/4/2007م للرد على استفساره الذي وُصف ، صحفياً ، بأنه (استكشافي)! ومع أنه ليس ثمَّة موقع لهذا (الاستفسار الاستكشافي!) ضمن الاجراءات القانونيَّة التي يتبعها مكتب المدَّعي العام في عمله ، خصوصاً بعد أن أودع الملف (محكمة ما قبل المحاكمة) ، إلا أنه شكَّل فرصة إضافيَّة للحكومة كي تعيد لحمة صلاتها التي تقطعت مع المحكمة ، وتصحِّح بها مواقفها الخاطئة تجاهها. غير أن الحكومة لم تكتف ، فحسب ، بتجاهل هذه المذكرة ، حتى نهاية المهلة المحدَّدة ، بل سارع وزير العدل النائب العام السوداني إلى التصريح ، عبر الصحف وأجهزة الاعلام ، بأن "موقف الحكومة ثابت ومعلن ولن يتغيَّر ويقوم على أن محكمة لاهاي لا ينعقد لها اختصاص في هذه القضايا" (الرأي العام ، 29/4/2007م). كما أكد الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجيَّة ، أيضاً ، أن "موقف الحكومة ثابت ، ولن تسلم مطلوباً للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة" (المصدر). مع ذلك ، ألمحت مصادر صحفيَّة قريبة من مركز القرار إلى ما يُفهم منه أن تشققاً يضرب جبهة الحكم نفسها ، حول هذه المسألة ، وخلافاً يحتدم ، إزاءها ، داخل دوائرها العليا ، حيث يظاهر البعض ، بالاستناد إلى موقف رئيس الجمهوريَّة ، تشدَّد وزارة العدل ديوان النائب العام في موقفها الرافض لأي شكل من أشكال التعاون مع المحكمة ، بينما يؤازر آخرون مساعى بعض الدوائر النافذة ، وذات الصلة بهذا الملف في وزارة الخارجيَّة ، "لتجنيب البلاد مواجهة مع المجتمع الدولي" ، ولو من خلف وزارة العدل ديوان النائب العام (محمد لطيف ؛ السوداني ، التحليل السياسي على الصفحة الأولى ، 1/5/2007م). دَعْ مواقف بعض أهمِّ شركاء حزب المؤتمر الوطني في الحكومة الذين ما انفكوا يدعون ، علناً ، إلى عدم الاصطدام بالمحكمة ومجلس الأمن ، وعلى رأسهم الحركة الشعبيَّة لتحرير السودان بقيادة النائب الأول لرئيس الجمهوريَّة ، وفصيل حركة تحرير السودان الموقع على (اتفاقيَّة أبوجا) بقيادة كبير مساعدي رئيس الجمهوريَّة! المناسبة الثانية: عندما أصدرت (محكمة ما قبل المحاكمة) قرارها ، في 2/5/2007م ، بقبول الدعوى وأدلتها ضد (هارون وكشيب) ، وأصدرت ، من ثمَّ ، مذكرتي التوقيف بحقهما. فقد سارع وزير العدل النائب العام ، كالعادة ، إلى رفض القرار ، عائداً إلى ذات الحُجَّة القديمة التي سبق أن أوضحنا خطأها من زاوية القانون الدولي ، بقوله: إن السودان "ليس عضواً في المعاهدة بشأن المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة"! ومضى مشدِّداً على نفس المعنى بقوله: "السودان ليس معنياً أبداً بهذا القرار ، كونه سبق أن أعلن ألا رغبة له مطلقاً في التعاون مع المحكمة حين يتعلق الأمر بمحاكمة سودانيين خارج السودان"! ثمَّ اتهم االقرار بأنه يُظهر "الطابع السياسي" للمحكمة ، ويأتي في سياق "الضغوط التي تمارس على السودان للقبول بنشر قوات دوليَّة في دارفور!" (السوداني ، 3/5/2007م). ولا نحسب الخطأ في هذه التقديرات ، من الناحية القانونيَّة ، مِمَّا يحتاج إلى كثير إسهاب في بيانه ، وعلى رأس ذلك خلط الوزير بين (نظام روما) وبين (ميثاق الأمم المتحدة) ، وبالأخص الفصل السابع منه ، في ما يتصل بمصدر التزام الحكومة ، في حالة ملف دارفور بالذات ، (بالتعاون) مع المحكمة في تنفيذ مذكرتي التوقيف! ح/ وفي 6/6/2007م عاد السفير سراج الدين حامد ، مدير إدارة السلام وحقوق الانسان بوزارة الخارجيَّة السودانيَّة ، ليبلغ ورشة العمل الدوليَّة التي نظمها التحالف الدولي من أجل المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة CICC بأديس أبابا ، بمشاركة أكثر من 2000 منظمة غير حكوميَّة ، وأكثر من 13 دولة أفريقيَّة ، وخاطبها نائب رئيس المحكمة ، القاضي فاتوبين سودا ، أن مكتب المدَّعي العام للمحكمة لم يلتزم بنصوص وأحكام (نظام روما) بشأن أحكام المقبوليَّة بعد "التعاون الكبير!" الذي قدَّمه السودان للمحكمة ، ووقوف أوكامبو على تولي القضاء السوداني مهمَّة التحقيق في القضايا المرفوعة ضد الشخصين اللذين أحالهما إلى المحكمة! وقطع حامد ، في مداخلته أمام الورشة ، بعدم مشروعيَّة قرار مجلس الأمن رقم/1593 بإحالة ملف دارفور إلى المحكمة ، حيث ".. لا يخوِّل له ميثاق المنظمة الدوليَّة ذلك!" ، على حدِّ قوله (الرأي العام ، 7/6/07). ط/ وعندما قدَّم المدَّعي العام أوكامبو ، بتاريخ 7/6/2007م ، تقريره الدوري نصف السنوي إلى مجلس الأمن ، في جلسة مغلقة ، داعياً إلى الضغط على السودان لتسليم المتهمين (هارون وكوشيب) ، سارع السفير عبد الحليم عبد المحمود ، مندوب السودان في المنظمة الدوليَّة ، إلى وصف هذا التقرير بـ "السيئ"! وكانت الحكومة قد استبقت التقرير بإعلان رفضها القاطع تسليم أي مواطن سوداني إلى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، معتبرة أن هذه المحكمة "ليست ذات اختصاص دولي ، بل هي محكمة طوعيَّة"! وجدَّد وزير الخارجيَّة القول بأن "السودان ليس عضواً فيها" وأنها "ليس لديها الاختصاص (الكامل!) للتدخل في السودان" (السوداني ، 8/6/07). من جانبه شدَّد وزير العدل النائب العام على أن الحكومة ستتعامل مع أيَّة محاولة للقبض على المطلوبين دون موافقتها باعتبارها "قرصنة واختطافاً" ، كاشفاً ، في ذات الوقت ، عن أن السودان لم يتلق طلباً رسمياً في هذا الشأن (الرأي العام ، 8/6/07). وصرَّح ، على خلفيَّة طلب المحكمة من أعضاء مجلس الأمن ، وأطراف (نظام روما) ، والدول الأعضاء في الأمم المتحدة ، والجامعة العربيَّة ، والاتحاد الأفريقي ، والانتربول ، وبعض دول الجوار كمصر وليبيا وأثيوبيا وأريتريا ، التعاون غير المشروط في تنفيذ أمر التوقيف الصادر ضد المتهمين ، بأن الانتربول لا ينفذ القرارات التي لا تستند إلى القانون الدولي (المصدر).
رابعاً: السـياق القانوني والقضائي الوطني للأزمة: (1) اللافت للنظر ، بوجه خاص ، أن الحكومة ، في بعض لحظات منافحتها المرتبكة عن موقفها القانوني والسياسي والأخلاقي في مواجهة المجتمع الدولي والشرعيَّة الدوليَّة ، لم تعدم الانتباه إلى أن ما ينقصها ، حقاً ، هو الوفاء باستحقاقات العدالة الوطنيَّة ، لإثبات (رغبتها) في ، و(قدرتها) على ملاحقة الجناة ، كي تتسق منافحتها تلك مع مطلوبات (نظام روما). ولعلَّ ذلك هو السياق الذى جرى ، من خلاله ، تكوين (لجنة التحقيق الوطنية حول الوضع فى دارفور ـ لجنة دفع الله الحاج يوسف) ، عام 2004م ، بموجب قانون لجان التحقيق لسنة 1954م ، والتى لم يختلف تقريرها الختامى ، جوهرياً ، عن التقرير الذي صدر ، لاحقاً ، عن لجنة كاسيسي الدوليَّة ، لجهة إثبات الانتهاكات الرئيسة المرتكبة في الاقليم ، مِمَّا مهَّد لصدور أمري تأسيس وتشكيل (المحكمة الجنائية الخاصة بدارفور) الصادرين عن رئيس القضاء فى 7/6 و11/6/2005م على التوالى ، وما تلاهما من أوامر تأسيس وتشكيل لمحكمتين أخريين خاصَّتين سنعرض لهما في حينه. (2) لكن المحكمة الخاصَّة الأولى المعروفة (بمحكمة أبكم) ، إيماءً إلى رئيسها قاضى المحكمة العليا محمود سعيد أبكم ، ليست بمنأى عن النقد ، لدى مقارنتها بالمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، على الأقل من ثلاثة وجوه أساسيَّة: الوجه الأول: أ/ أن المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة هيئة قضائيَّة (دائمة) ، تأسَّست تحت ضغط المطالبة الديموقراطيَّة الملحَّة والمتواصلة لشعوب العالم بضرورة إيجاد قضاء دولي مقتدر ، يتجاوز خبرات المحاكم المؤقتة السابقة ، من (نوريمبرج وطوكيو) إلى (يوغسلافيا السابقة وأروشا) وغيرها. ب/ أما المحكمة الخاصَّة الأولى بدارفور فهى محكمة (مؤقتة Ad Hoc) ، تشير ملابسات تأسيسها إلى وقوعها فى سياق النزاع بين النظام السوداني ومؤسَّسات المجتمع الدولي ، كضرب من سدِّ ذرائع (ادعاءاته) ، فى حين أن المحاكم لا تنشأ ، فى الأصل ، لمجرد (إفحام) هذه الجهة أو تلك ، بل لسدِّ حاجة ملحَّة ، فى كلِّ الأحوال ، لتصريف العدالة بقضاء طبيعى ومقتدر ودائم. ويجدر التنويه هنا بالنقد الذى وجهته اللجنة الدوليَّة ، فى تقريرها ، لأوضاع النظام القضائى السودانى ، معتبرة أنه قد أظهر افتقاره للسلطة والصدقيَّة والإرادة الكافية لإنزال العقاب بالجناة الذين ارتكبوا جرائم دارفور. الوجه الثاني: أ/ أن المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة تمارس اختصاصها على الأفراد إزاء "أشد الجرائم خطورة فى موضع الاهتمام الدولي" ، وفق منطوق المادة/1 من (نظام روما) الذى يصنف هذه الجرائم ضمن المادة/5/1 منه ، كما ويعرِّفها ضمن المادة/6 (بالابادة الجماعية) ، والمادة/7 (بالجرائم ضد الانسانية) ، والمادة/8 (بجرائم الحرب). ومن أهمِّ عناصر تعريفات هذه الجرائم: أ/1: أن ترتكب في ظروف حروب أو نزاعات مسلحة ، محليَّة أو دوليَّة ، أ/2: وأن تتسم بالوسع والمنهجيَّة. ب/ أما محكمة دارفور الخاصَّة الأولى فإن اختصاصها الموضوعى محدَّد فقط ، حسب المادة/5 من أمر تأسيسها ، بالأفعال التى تجرِّمها وتعاقب عليها القوانين الجنائيَّة السودانيَّة. وهى قوانين يصحُّ القول ، ابتداءً ، بأنها لا تتضمَّن عناصر القانون الجنائي الدولي. فهي تجرِّم وتعاقب على جرائم ، كإساءة سلطة الاعتقال ، وضمناً التعذيب (م/89 ، 90 من القانون الجنائى لسنة1991م مقروءة مع م/4/د من قانون الاجراءات الجنائيَّة لسنة1991م) ، وعلى جرائم أخرى منصوص عليها أيضاً ضمن القانون الجنائى لسنة1991م ، كالقتل (م/130) ، والاغتصاب (م/149) ، والنهب (م/175) والإتلاف (م/182) ، كما يعاقب قانون الأمن الوطنى لسنة 1999م عضو جهاز الأمن الوطنى والمخابرات الذى يسئ ممارسة السلطة المخوَّلة له بمقتضى أحكام هذا القانون بقصد تسبيب ضرر للغير (م/47) ، وتنصُّ لائحة هذا القانون على حق المعتقل فى أن يعامل بما يحفظ كرامته ، فلا يجوز إيذاؤه بدنياً أو معنوياً (م/9/1). لكن هذه القوانين تحظر وتعاقب ، في الواقع ، على هذه الجرائم بوصفها ، فقط ، جرائم ترتكب فى ظروف عاديَّة ، ولأسباب ودوافع إجراميَّة عاديَّة ، وليس من بينها الأفعال التى ترتكب في ظروف (الحرب) أو (النزاعات المسلحة) ، والتي تتسم بـ (الوسع) و(المنهجيَّة) ، والتي تشكل ، إجمالاً ، (أشد الجرائم خطورة) بالمعايير (الدوليَّة) ، إلا إذا اعتبرنا ، مثلاً ، أن (القتل) ثأراً للشرف ، أو (الاغتصاب) إطفاء للشهوة الجنسيَّة ، هما من الجرائم (الأشدَّ خطورة فى موضع الاهتمام الدولى) ، بحيث يتساويان و(القتل) و(الاغتصاب) ، مثلاً ، حين يُمارسان على نطاق (واسع) وبشكل (منهجى) ، أثناء نزاع مسلح فى مجتمع رعوى ، بغرض تصفية الخصوم أو إلحاق أكبر قدر من الأذى المادي أو المعنوى بهم! ج/ واستطراداً ، لم تفت ملاحظة هذه الناحية على لجنة التحقيق الدوليَّة التى أخذت على منظومة القوانين الجنائيَّة السودانيَّة كونها قاصرة عن حظر (جرائم الحرب) و(الجرائم ضد الإنسانيَّة) ، كما وأنها تمنح سلطات واسعة للأجهزة التنفيذيَّة. ومن أمثلة ذلك أن المادة/31 من قانون قوات الأمن الوطنى لسنة 1999م تمكن عضو جهاز الأمن من القبض على أى شخص وتفتيشه واحتجازه والتحقيق معه ، وفى نفس الوقت تمهل هذا العضو 3 أيام ليقدم للمحتجز أسباب احتجازه! ثم يمكن للمدير العام أن يمدِّد هذه الفترة إلى 3 شهور! وأن يجدِّدها ، بموافقة النائب العام ، لمدة 3 شهور أخرى! فإذا احتاج الأمر، يجوز له أن يطلب من مجلس الأمن الوطني تجديدها لمدة 3 شهور إضافيَّة! ويحق للمحتجز أن يستأنف هذا القرار أمام القاضي ، إلا أنه لا توجد ضمانات بإمكانيَّة حصوله على مساعدة من محام فوراً! وحتى هذه الفترة المحدَّدة للاحتجاز ، والتى قد تصل إلى 9 أشهر بموجب المادة/31 ، فإنه يتم تجاهلها في أغلب الأحيان! كما تمنح المادة/9 سلطات واسعة لعضو الجهاز الذي يعيِّنه المدير العام لتنفيذ مهام خاصة ، إذ يخوَّل احتجاز ممتلكات المحتجزين ”وفقا للقانون“! ورغم النصِّ على حق المحتجز ، بموجب المادة/32/2 ، فى الاتصال بأسرته ”حيثما لا يخل ذلك بسير الاستجواب والتحقيق في القضيَّة“ ، إلا أن هذه العبارة ، كما لاحظت اللجنة الدوليَّة بحق ، تنفي الوضوح ، ولا تجلب إلا الغموض ، وتهبط بمستوى القانون! وحتى لو كانت أسرة المحتجز على علم بحق الاتصال به ، فمن المشكوك فيه أن تتوفر لديها الشجاعة لتحدِّي هالة الخوف التي تحيط بأجهزة الأمن! وتبيِّن للجنة الدوليَّة أنه في أغلب الأحيان ، عندما تسعى القلة الشجاعة للحصول على إذن ، فإنه لا يُمنح لهم! وبالنتيجة يصبح المحتجز مجهولاً ، وتتجاوز فترة احتجازه في بعض الأحيان 12 شهراً دون توجيه تهمة ، ودون تمكينه من الحصول على محام ، ودون عرضه أمام محكمة أو السماح بزيارته ، مِمَّا يشكل مخالفةً جسيمة لنص المادة/14/3/ج من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة ، وحتى لنص المادة/31 من قانون الجهاز نفسه التى توجب ، بعد انتهاء مدة الاحتجاز المحددة والتى أقصاها 9 أشهر ، تقديم المحتجز إلى المحاكمة أو إطلاق سراحه. الوجه الثالث: أ/ أن (نظام روما) يقوم ، فى أحد أهم وجوهه ، على التعاون الدولى للحدِّ من استخدام (الحصانات Immunities) كأدوات (للافلات من العقاب Impunity) ، أو كدروع مضادَّة لتحمُّل المسئوليَّة الجنائيَّة. ب/ أما (أمر تأسيس) محكمة دارفور الأولى فقد جاء غفلاً من أيَّة معالجة لهذه (الحصانات) التى تحول دون إخضاع (الأشخاص ذوى السلطة) لأحكام العدالة ، كما يخلو القانون الاجرائى نفسه من مثل هذه المعالجة. ويتمتع جهاز الأمن الوطنى والمخابرات ، على نحو مخصوص ، بوضعيَّة مميَّزة لجهة سلطاته وحصانات أعضائه حتى الآن (منتصف 2007م) ، بموجب (قانون الأمن الوطنى لسنة 1999م) ، رغم أن المادة/151/3 من (دستور السودان الانتقالى لسنة 2005م) ، المؤسَّس على (اتفاقيَّة السلام الشامل CPA) ، قد صيَّرت هذا القانون غير دستورىٍّ من الناحية العمليَّة ، حيث تنصُّ على تركيز مهام هذا الجهاز فى "جمع المعلومات وتحليلها وتقديم المشورة للسلطات المعنيَّة". وقد يكفى للشهادة على ذلك ما توصَّلت إليه لويز آربور ، المفوَّضة السامية السابقة لحقوق الانسان ، إذ عبَّرت ، فى المؤتمر الصحفى الذى عقدته فى ختام زيارتها للسودان بتاريخ 5/5/2006م ، عن قلقها "إزاء قوات الأمن التى تقوم بانتهاكات جسيمة لحقوق الانسان ، بما فى ذلك الاعتقالات التعسفيَّة والتعذيب .. فى أماكن تابعة لجهاز الأمن ، الأمر الذى يتطلب إعادة ترتيب هذا الجهاز وإصلاحه بصورة عاجلة .. (لأنه) لا يتفق مع المعايير الدوليَّة لحقوق الانسان .. فى عدم محاكمة المسئولين والحصانات .. وله سلطات كان يجب أن تمارسها السلطة المدنيَّة .. وكذلك ينبغى أن تراجع حالة الطوارئ لتلبى تطلعات حقوق الانسان .. (و) هناك حاجة إلى تغيير كامل لنظام الأمن الوطنى فى السودان" (صحف ووكالات ، 5 و6/5/2006م). وفي هذه الناحية أيضاً ، أخذت اللجنة الدوليَّة على القوانين السودانيَّة ، بحق ، أن قانون الإجراءات الجنائيَّة لسنة 1991م يضم أحكاما تمنع مقاضاة الأشخاص ذوى السلطة بشكل فعَّال. وأن المادة/33 من قانون الأمن الوطنى تمنح حصانات قويَّة وواسعة لأعضاء جهاز الأمن والمخابرات والمتعاونين معهم ، فلا يُرغم أحد منهم على إعطاء معلومات عن أنشطة الجهاز التي اطلعوا عليها خلال عملهم. ولا يمكن ، بدون موافقة المدير ، إقامة دعوى جنائيَّة ، أو حتى مدنيَّة ، ضد أىٍّ منهم عن أيَّة أفعال لها صلة بعملهم. ومع أن المدير وحده هو الذى يملك منح تلك الموافقة ، إلا أنهم يحتفظون بحقهم في العودة على الدولة بالتعويض! وعندما يمنح المدير موافقته فإن عنصر الأمن يقدم إلى محكمة عاديَّة ولكنها .. (سريَّة)! ومرة أخرى ترى اللجنة الدوليَّة فى ذلك ، بحق ، مخالفة للمادة/41/1 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنيَّة والسياسيَّة ، حيث الجلسة (العامَّة) هى المعيار الأساسي للمحاكمة العادلة. وعند مواجهة اللجنة للواء صلاح عبد الله (قوش) ، مدير عام جهاز الأمن الوطني والمخابرات ، بهذه المسألة ، نحا باللائمة على الترجمة الانجليزيَّة للنص كونها ، برأيه ، غير دقيقة. لكن اللجنة عكفت على إعادة الترجمة بمعرفتها ، فخلصت إلى أن المحاكمة (السريَّة) هى بالفعل جزء من القانون! كما استدلت اللجنة من المادة/33 بوضوح على أنها تمكن فرد الأمن من أن يعذب المشتبه فيه ، بل وحتى أن يقتله ، ومع ذلك يعتبر فعله محصناً بمظلة القانون باعتبار وقوعه في سياق "تأدية مهامه"! ومن ثمَّ أوصت اللجنة ، بقوة ، بإلغاء هذا القانون ، نظراً لما أنتجه ، وما زال ينتجه ، من تفشٍّ لـ (الإفلات) من العقاب. ومن قبيل المفارقة الصارخة أن المُشرِّع السودانى أدخل ، قبل شهرين من تأسيس (محكمة أبكم) ، وسبعة أشهر من تشكيل المحكمتين الأخريين ، تعديلين جوهريين بموجب أمرين جمهوريَّين مؤقتين صادرين فى 10/4/2005م: أولهما على قانون الاجراءات الجنائيَّة لسنة 1991م ، وثانيهما على قانون قوات الشعب المسلحة لسنة 1986م ، بغرض تمكين عناصر الشرطة والجيش من (الافلات) من العقاب ، و(تحصينهم) ضد أيَّة مسئوليَّة جنائيَّة جراء ارتكابهم حتى أفعال (القتل العمد) ضد المدنيين العُزل ، بحيث لا يقتضى الأمر سوى (التعويض) أو (الديَّة)! وحتى هذه تتكفل بها الدولة حسب منطوق المادة/73/3 الجديدة من القانون الأول ، والمادة/79/أ/3 الجديدة من القانون الثانى! ولا يعوِّض سقوط هذين التعديلين فى المجلس الوطنى عمَّا وفراه ، مع ذلك ، من (حصانات) وفرص (للإفلات) من العقاب ، فى عدد من الحالات ، خلال مدة سريانهما بقوة (الأمر الجمهورى المؤقت) ، فضلاً عن أنه لا يوجد ، بالنظر لاتجاههما العام ، ما يضمن عدم صدور تشريع مشابه لهما مستقبلاً. (3) وفي سبيل التقويم الاجمالى لأداء المحاكم الخاصَّة بدارفور ، سنحاول ، فى ما يلى ، تلمُّس الدلالات الحقيقيَّة للاعلان الذي أطلقه وزير العدل النائب العام حول أن تلك (المحاكم الوطنيَّة) قد باشرت أعمالها لمحاكمة (المتورِّطين) فى أحداث الاقليم ، على حدِّ تعبيره: أ/ فبالاضافة إلى (محكمة أبكم) التى سلفت الاشارة إلى تأسيسها بالفاشر فى يونيو 2005م أصدر رئيس القضاء أمري تأسيس بالرقمين/1128 و1129 ، فى 16/11 و18/11/2005م على التوالى ، وقراري تشكيل لمحكمتين جنائيَّتين خاصتين أخريين بدارفور ، إحداهما فى نيالا برئاسة قاضى المحكمة العليا جار النبى قسم السيد ، والأخرى فى الجنينة برئاسة قاضى المحكمة العليا أحمد أبو زيد. وينطبق ، بطبيعة الحال، على أمرى تأسيس هتين المحكمتين ، نفس النقد الذى سبق أن طال أمر تأسيس المحكمة الأولى. ب/ لكن ، ولئن كان ذلك النقد قد شمل عدم اتساق أمر تأسيس المحكمة الأولى مع المعايير الدوليَّة للعدالة الجنائيَّة من جهة خلوِّه من النصِّ على اختصاصها بمحاكمة مرتكبى "أشد الجرائم خطورة فى موضع الاهتمام الدولى" ، فإن أمرى تأسيس المحكمتين الأخريين قد نصَّا ، ضمن المادة/5/1 من كلٍّ منهما ، على اختصاصهما بالفصل فى "الأفعال التى تشكل جرائم بموجب ... القانون الانسانى الدولى" ، مِمَّا يرتب هنا لمطعنين جديدين: أولهما: أن الحكمة التى اقتضت تضمين أمري تأسيس المحكمتين الجديدتين بنيالا والجنينة نصَّاً باختصاصهما بمحاكمة الجرائم ضد (القانون الانسانى الدولي) كان يُفترَض أن تكون هى ذات الحكمة التى تستوجب تعديل نص المادة/5/1 من أمر تأسيس (محكمة أبكم) فى الفاشر. لكن ، ولأن هذا لم يحدث ، فإن مفارقة غريبة تنشأ هنا ، مؤدَّاها أن محكمتى نيالا والجنينة تعملان باختصاص أوسع من اختصاص محكمة الفاشر ، مع كون ثلاثتها قد شكلت بنفس الدرجة ، ولذات الغرض! ثانيهما: أنه ، ورغم أن الاتفاقيات والمعاهدات الدوليَّة التى يكون السودان طرفاً فيها هى مِمَّا يندرج ضمن (العلم القضائى Judicial Notice) ، بوجه عام ، حسب نص المادة/14/3/د من قانون الاثبات لسنة 1993م التى تقرأ: ".. تأخذ المحكمة علماً قضائياً بالمسائل الآتية ، وهى .. (د) كلُّ دولة تعترف بها حكومة السودان ، وبصفة عامَّة كلُّ الشئون الدوليَّة والسياسيَّة المتصلة بعلاقات السودان الخارجيَّة" ، إلا أن ميكانيزم استصحاب المواثيق الدوليَّة قضائياً يستوجب ، من الناحية العمليَّة ، تقنينها ، ابتداءً ، فى إطار التشريع الوطنى ، خصوصاً حين يتصل الأمر بالجانب الجنائى ، وبالاخص جانب العقوبة منه. وهذا ما جرى عليه العمل بالنسبة للقضاء الانجليزى الذى لا يدمج المواثيق الدوليَّة تلقائياً فى القانون الذى يطبقه لمجرَّد أن الدولة طرف فيها. وقد كتب اللورد ديننج حول هذه المسألة قائلاً: "إننى أعارض بشدة أن يعتبر الميثاق الدولى جزءاً من قانوننا. إن المعاهدات والاعلانات الدوليَّة لا تكون جزءاً من قانوننا إلا بعد أن يقننها البرلمان": “I would dispute altogether that the convention is part of our law, treaties and declarations do not become part of our law until they are made” (Lord Dening, Civil Liberties Cases and Materials, 2end Ed., S. H. Bailey, D. J. Harris B. I. Jones. p. 5) وبمنأى عن المقارنة مع القانون الانجليزى ، فإنه من غير المتصوَّر ، عقلاً ، أن يمتد عمل قاضى الجنايات ، مثلاً ، من العلم (بإتفاقيات جنيف الأربع المبرمة فى 12/8/1949م) إلى استخلاص عناصر وأحكام (جرائم الحرب) و(الجرائم ضد الانسانية) منها! وحتى لو فعل فأنَّى له أن يقرِّر ، من تلقاء نفسه ، (العقوبات) المناسبة لها؟! أليس هذا من صميم عمل التشريع؟! وهل يجوز أن يتحوَّل القاضى إلى مشرِّع؟! ج/ مهما يكن من أمر ، فإن أداء المحاكم الثلاث ، خلال العامين الماضيين ، يقدِّم البرهان العملى على قصورها أجمعها عن بلوغ أدنى مطلوبات أو معايير (العدالة الجنائيَّة الدوليَّة) فى مستوى تطبيق وإنفاذ (القانون الانساني الدولي) ، وإلا فما هي القضيَّة التي عُرضت أمامها وشغلت الرأى العام الدارفوري ، دَعْ الدولي؟! حقاً إن الذي لا تنتطح فيه عنزان هو أن المجتمع ما يزال مصدوماً بمشهد الاجراءات الروتينيَّة الرتيبة تطال غمار المتهمين فى قضايا سرقة سيارات واعتداءات مختلفة على قوافل إغاثة أو منظمات طوعيَّة ، مِمَّا لا يشفى غليل الضحايا أو ذويهم جرَّاء عمليات القتل الجماعى ، واغتصاب النساء ، والاختفاءات القسريَّة ، وحرق القرى ، ونهب ممتلكات السكان ، وما إلى ذلك من الجرائم البشعة التى وردت ضمن تقرير اللجنة الدوليَّة ، بل وضمن تقرير اللجنة الوطنيَّة ، وما زالوا يتعرضون لها ، بينما (العدالة) عاجزة عن ملاحقة ومحاكمة (كبار مجرمى الحرب) الذين يعرفهم الناس بالاسم والرسم! د/ وتوخياً للموضوعيَّة يتحتم علينا الاقرار بأن قضاة هذه المحاكم ، فى حقيقة الأمر ، مغلولو الأيدى ، إذ ليس من اختصاصهم قانوناً ، وفى وجود الشرطة وووكلاء النيابات بولايات دارفور الثلاث ، القيام بفتح البلاغات أو متابعة إجراءات القبض والتفتيش والتحرى وما إلى ذلك ، إنما مهمتهم أن يفصلوا فى قضايا يقدمها لهم وكلاء النيابات بعد أن يكونوا قد باشروا فيها كلَّ إجراءات ما قبل المحاكمة. لكن هؤلاء الوكلاء جزء من الجهاز التنفيذى ، يأتمرون بتوجيهاته وسياساته العليا. وهي توجيهات وسياسات أبعد ما تكون عن نصب ميزان العدالة كما ينبغي. ولعل أقرب مثال ، بل أبلغ دليل ، على ذلك ، قرار رئيس الجمهوريَّة بإلغاء قرار المدَّعي العام السوداني الذي كان قد أمر بإعادة فتح التحقيق مع الوزير أحمد هارون ، عقب إعلانه متهماً أوَّل لدى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، وذلك بناء على معلومات جديدة تبرِّر إعادة التحقيق معه ، لكن رئيس الجمهوريَّة تدخل ليضفي حمايته عليه ، وليحسم المسألة برمتها ، قائلاً ، علناً وعلى رءوس الأشهاد: إن هارون لن يسلَّم ، ولن يسلِم نفسه ، ولن يخضع لأيِّ تحقيق (السوداني ، 26/3/2007م). وبدلاً من أن يتخذ وزير العدل النائب العام موقفه إلى جانب مدَّعيه العام ، ما لبث أن أعلن انحيازه إلى قرار رئيس الجمهوريَّة ، قائلاً إنه لم يجد من الأدلة ما يدعم اتهامات المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ضد هارون (الصحافة ، 4/5/2007م) ، علماً بأن الطريقة الوحيدة التي كان يمكن بها تأكيد أو نفي وجود مثل هذه الأدلة ، في إطار العدالة الجنائيَّة الوطنيَّة ، هي تنفيذ أمر المدعي العام السوداني بإخضاع هارون للتحقيق ، وهو ما لم يحدث بسبب تدخل رئيس الجمهوريَّة! هـ/ وإذن ، فإن تقديم المتهمين الكبار إلى القضاء الوطني رهين ، فى المبتدأ والمنتهى ، لا برغبات أو قدرات القضاة ، بل بالارادة السياسيَّة للسلطة الحاكمة ، وهى إرادة تشير كلُّ الدلائل إلى أنها ما تزال غائبة حتى الآن ، بينما الحكومة سادرة في إصرارها على إعلان رفضها المجَّانىِّ للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، فلا هى ترحم ولا هى تترك رحمة الله تتنزَّل ، دون أن تجتهد مثقال ذرَّة ، بالمقابل ، فى طرح بدائل تخرج بها من حالة الارتباك التى تسِمُ أداءها الراهن ، وتكون مقنعة لمواطنيها ، فى المقام الأول ، قبل أن تكون مقنعة للمجتمع الدولي! (4) هكذا ظلَّ فشل الحكومة في التعاطي مع ملف جرائم دارفور يتواصل في كلِّ السياقات ، وبالأخصِّ في السياق القانوني والقضائي ، طوال ما يربو على العامين ، منذ صدور قرار مجلس الأمن رقم/1593 في 31/3/2005م ، وحتى صدور قرار (محكمة ما قبل المحاكمة) بمقبوليَّة الدعوى وأدلتها في 2/5/2007م. ولم تنتبه الحكومة ، للأسف الشديد ، إلا مؤخَّراً جداً ، بعد أن أضاعت جميع الفرص التي كانت متاحة لها ، لتعلن ، قبل ساعات معدودات من الكشف عن إسمي (هارون وكوشيب) كمتهمين فى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، أنها قرَّرت تقديم بعض الضباط وعناصر الدفاع الشعبي للمحاكمة على جرائم ارتكبت في دارفور ، ومن بينهم (كوشيب) نفسه ، على حين قطع رفض رئيس الجمهوريَّة الطريق أمام إعادة التحقيق الذي اعتزمه المدَّعي العام مع (هارون)! لكن ، ومهما يكن من أمر ، فإن هذا الإجراء لا طائل من ورائه ، لأن من أهمِّ عناصر الجديَّة فى المحاكمات الوطنيَّة المطلوبة ألا يكون المقصود منها معكوس مطلوباتها الحقيقيَّة بالمعايير الدوليَّة ، أي أن تؤدى ، عملياً ، لا إلى معاقبة المجرمين ، وإنما إلى حمايتهم من أن تطالهم يد عدالة صادقة (المادة/17/3 من نظام روما) ، خاصة أن الحكومة لم تعلن أسماء هؤلاء المتهمين ، بل اكتفت بالقول ، فجأة ، بأن عددهم يفوق الـ 150 (!) مِمَّا يثير شبهة اللجؤ إلى هذا الاجراء كعمل استباقي يمكنها ، في ما بعد ، من إعلان أن التحقيق مفتوح ، أصلاً ، مع (أيِّ إسم) يمكن أن يرد ضمن أيَّة قائمة تعلن المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، في أيِّ وقت ، أنها مطلوبة لها!
سادساً: مَا العَمَلْ؟! من البدهى أن يجد أىُّ نظام ترعرع على الاستئثار المطلق بالسلطة صعوبة كبيرة فى تجرُّع الأفكار الجديدة التى تفرض عليه مراجعة مناهجه كى يكتشف الخطأ القاتل فى الاصرار على مواصلة السير بالطريق القديم ، واستحالة استمرار شعبه فى الصمت بإزاء بقاء الحال على ما هو عليه ، فضلاً عن مخاطر الاطماع الاجنبيَّة التى تحدق بالبلاد! ومع ذلك ، فلا مناص من طرح هذه الأفكار التى لا بديل عنها فى الوقت الراهن، والتى تشكل ، فى رأينا ، المخرج الوحيد المتاح ، ليس فقط من المأزق الفرعى لنزاع النظام مع المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة حول ملف دارفور ، بل ومن الأزمة الوطنيَّة الرئيسة نفسها ، فى مستوى السودان كله ، وذلك عبر المدخلين التاليين: المدخل الأول: (1) تعتبر مرجعيَّة الحكم فى السودان ، الآن ، هى (الدستور الانتقالى لسنة 2005م) المستمد من (اتفاقيَّة السلام الشامل CPA) المبرمة فى 9/1/2005م ، برعاية دوليَّة وأفريقيَّة ، فى إثر مفاوضات نيفاشا الكينيَّة بين حزبى المؤتمر الوطنى فى الشمال ، والحركة الشعبيَّة/الجيش الشعبى لتحرير السودان فى الجنوب. وأضيفت لاحقاً (إتفاقيَّة سلام دارفور DPA) الهشَّة المبرمة فى 5/5/2006م ، برعاية دوليَّة وأفريقيَّة أيضاً ، بين الحكومة وبين جناح واحد من (حركة/جيش تحرير السودان) فى دارفور بقيادة منى أركو مناوى ، دون الأجنحة الأخرى ، وأبرزها الجناح الذي يقوده عبد الواحد محمد نور ، ودون (حركة العدل والمساواة) بقيادة د. خليل أبراهيم ، وذلك فى إثر مفاوضات أبوجا النيجيريَّة. كما أضيفت أيضاً (إتفاقيَّة أسمرا) للسلام في شرق السودان. (2) لا شكَّ أن الغرض الرئيس من (الدستور الانتقالى) الذي تمخض عن (اتفاقيَّة السلام الشامل CPA) هو تحقيق هدفين مترابطين جدلياً: (السلام الشامل) و(التحوُّل الديموقراطى). ولا شكَّ ، أيضاً ، في أن الطريق المفضي لتحقيق هذين الهدفين يمرُّ ، بالضرورة ، عبر تحقيق شرط (العدالة الانتقاليَّة) كمقدمة لازمة لإعادة بناء (الجبهة الداخليَّة). بعبارة أخرى فإن (التحوُّل الديموقراطى) لا يتحقق فى غير بيئة (السلام الشامل) ، واستدامة (السلام الشامل) مشروطة باستكمال (التحوُّل الديموقراطى) الذى لا يكون ، هو نفسه ، بغير إنجاز (العدالة الانتقاليَّة). وتشكل هذه القضايا ، مجتمعة ، الشرط الموضوعى لإعادة بناء (الجبهة الداخليَّة) فى ظلِّ معطيات الظرف الدولى والاقليمى الدقيق. (3) مع ذلك ، وبقدر ما يُعتبر ضرباً من الوهم الفادح تصوُّر (مدينة السودان الفاضلة) فى هذا النمط من الحلول التجزيئيَّة للمشكلات (الجنوب ، ثمَّ دارفور ، ثمَّ الشرق .. وهكذا دواليك) ، فإن من فادح الوهم أيضاً تصوُّر الارتباط على الأرض بين (السلام) و(التحول الديموقراطى) و(العدالة الانتقاليَّة) و(توحيد الجبهة الداخليَّة) بدون إصلاح بنية السلطة والعلاقات السياسيَّة الوطنيَّة شكلاً ومضموناً. فعلى الرغم من أن بلادنا ليست حديثة عهد (بالديموقراطيَّة) ، حيث ارتبط النضال من أجل الاستقلال ، أصلاً ، بالنضال من أجل البناء الديموقراطى للدولة الوطنيَّة ، مثلما أضحى النضال من أجل الديموقراطيَّة قانوناً ثابتاً للثورة السودانيَّة ، إلا أن عهود الشموليَّة المتطاولة أسهمت فى (تغذية) الهشاشة النسبيَّة للبنية الاجتماعيَّة التى تتيح استشراء الغلو باسم الدين ، وإضعاف آليات المقاومة للقهر ، وتكريس قيم السوق بالمصادمة لقيم التضامن ، وما إلى ذلك ، مِمَّا انعكس سلباً على أداء الدولة الوطنيَّة فى احتمالها (القمعى) ، والتى أضحت تبدى ، منذ حين ، لا فى السياق المنسجم للتطوُّر الداخلى ، وإنما استجابة ، فحسب ، للضغوط الخارجيَّة ، إيحاءً خدَّاعاً بالقبول الشكلانى (للتحوُّل الديموقراطى) ، دون أن تحفل ، قيد أنملة ، بمطلوبات هذا الهدف من قضايا (العدالة الانتقاليَّة) التى تفضِّل هذه الدولة أن تستخدم ، بدلاً منها ، مصطلح (المصالحة) المخاتل ، وإلى ذلك محاربة (تهميش) النساء والتكوينات القوميَّة المستضعفة ، وفض التناقض المصطنع بين (الديموقراطيَّة) و(الدين) فى مستوى الوعى الاجتماعى العام ، وإنجاز (الاصلاحات) السياسيَّة والتشريعيَّة اللازمة لهذا المشروع ، وإتاحة (المشاركة) الجماهيريَّة الواسعة فى حسم هذه القضايا. (4) ويجب الأخذ فى الاعتبار بتداخل قضايا (التحوُّل الديموقراطى) لبلادنا فى نسيج حراكات عالميَّة لا سبيل لفصلها عنها. فثورة الاتصالات قد مكنت من تدشين (عولمة بديلة) ما تنفكُّ تتخلق منذ حين ، بثبات مرموق ، فى وجه (العولمة الامبرياليَّة المتوحِّشة)، فصارت إلى ازدياد ملحوظ التجمُّعات الدوليَّة القائمة على (الاعتماد المتبادل)، والمعنيَّة بحقوق الانسان ومصائر الشعوب وهمومها ، شاملة لمئات الآلاف من المنظمات والجمعيات الوطنيَّة ، والفيدراليَّات الدوليَّة والاقليميَّة. ومن أحدثها ، مثلاً ، (كومونة الديموقراطيات Community of Democracies) ، أو (خليَّة الديموقراطيَّة Democracy Coccus) ، وهى تشاركيَّة واسعة بين مؤسَّسات المجتمع المدنى الدولى وعدد من الحكومات الديموقراطيَّة ، وقد خرجت ، فى خطوتها الأولى ، (بإعلان وارسو لسنة 2000م) لتأكيد التمسك بقيم الديموقراطيَّة ، كما وتنشط ، حالياً ، فى الدفع باتجاه التواثق على المعايير الدوليَّة (للتحوُّل الديموقراطى) ، ورفض التنصُّل عنها من جانب أىِّ حكومة. ويندرج كذلك ، فى سياق هذا الحراك ، (التحالف الدولي من أجل المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة) الناشط ، من جانبه ، فى الدفع باتجاه المزيد من التوقيع أو المصادقة على (نظام روما) ، وما إلى ذلك من الكيانات المرموقة. لذلك فمن فادح الوهم ، أيضاً ، تصوُّر (التحوُّل الديموقراطى) المنشود محض (خيار) يؤخذ به أو لا يؤخذ ، فيتوجَّب التعاطى معه فى منظور إلزاميَّته المؤسَّسة على أسمى القيم ، والمحروسة برقابة دوليَّة ، رسميَّة ومدنيَّة. المدخل الثانى: أ/ لا شكَّ أن التطبيق الجاد (للعدالة) بمعاييرها الدوليَّة من قبل أيَّة دولة كافٍ لإقصاء شرط (عدم القدرة أو الرغبة) فى حق هذه الدولة ، حسب نص المادة/17/1/ب من (نظام روما). ومن أهمِّ هذه المعايير، حسب المادة/17/2 ، 3 ، ألا يكون قد وقع تأخير لا مبرِّر له فى اتخاذ الاجراءات من قبل أجهزة العدالة الوطنيَّة ، وألا تكون ثمَّة إجراءات قد اتخذت ، تحت ستار (القدرة والرغبة) ، لمجرَّد حماية شخص من المساءلة الجنائيَّة ، كما ينبغى ألا يكون قد وقع تصرف ، أثناء اتخاذ الاجراءات ، بما لا يتفق مع الهدف من تقديم الشخص إلى العدالة. ومن أهمِّ شروط (عدم مقبوليَّة الدعوى) لدى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، حسب المادة/17/1/أ ، أن يكون قد بُدئ فى تحقيق أو محاكمة ، أو أن مجرَّد قرار قد صدر بإجراء هذه المحاكمة ، من قبل دولة مختصة ، فى حق الشخص المتهم بارتكاب أفعال تشكل جريمة دوليَّة ، أو أن يكون هذا الشخص قد تمَّت محاكمته بالفعل ، علماً بأن مثل هذه المحاكمة لا ترقى إلى حجب اختصاص المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، ما لم تكن عن أفعال تشكل ، بالفعل ، جرائم دوليَّة ، وفق المادة/1. ب/ أما الدولة الخارجة ، لتوِّها ، من قبضة نظام قمعى ، سواء بصورة راديكاليَّة ترتب لقطيعة تامَّة مع النظام السابق كجنوب أفريقيا ، أو بصورة إصلاحية فى داخل النظام نفسه كالمغرب ، فإن التحوُّل الديموقراطى لا يمكن أن يقع فيها إلا عبر جملة ترتيبات عدليَّة تهدف إلى تضميد الجراح وترميم الشروخات التى تتمخض عنها الممارسات القمعيَّة السابقة ، مِمَّا قد لا يفى به مجرَّد النظام القانوني والعدلي التقليدي ، خصوصاً عندما يتطاول الأمد بالنظام القمعى ، وبالحصانات التى يسبغها على عناصره ، وبالتعقيدات التى تنجم عن ذلك فى ما يتصل ، مثلاً ، بالتقادم المسقط للحق فى التقاضى وما إليه. لذلك فإن خبرة الشعوب ما تنفكُّ ترتب ، منذ حين ، وبإزاء هذه التحديات ، لما أضحى يصطلح عليه (بالعدالة الانتقاليَّة transitional justice). وهى ما تحتاجه بلادنا، بالفعل ، ليس على صعيد الأوضاع فى دارفور ، فحسب ، بل وعلى مستوى السودان بأسره ، بعد زهاء العقدين من مرارات الحكم القمعى. ج/ لكن من الخطأ اعتبار هذه (العدالة الانتقاليَّة) التى تقترن وجوباً ، كما قلنا ، (بالتحوُّل الديموقراطى) مجرَّد تعبير (لغوى) يفسِّره كلٌّ بما يروقه ، بل هو (مصطلح) صارم ، ومفهوم منضبط ، أسهمت فى إكسابه دلالته المحدَّدة تجارب الشعوب من تشيلى إلى الارجنتين ، ومن البيرو إلى غواتيمالا ، ومن المغرب إلى جنوب أفريقيا وغيرها ، بحيث أضحت أيَّة خطوة باتجاه (التحوُّل الديموقراطى) الحقيقى مشروطة بتوفير هذه (العدالة الانتقاليَّة) كمقدِّمة لازمة لعمليَّة (التحوُّل) نفسها ، فتتصدَّر أيضاً ، ومن ثمَّ ، أولويات الرقابة والاهتمام الدوليَّين. وتطبيقاً على (المسألة السودانيَّة) ، عموماً ، و(حالة دارفور) بشكل مخصوص ، فإن المنهج الصائب لمعالجتها إنما يتحقق ، فى رأينا ، بمراعاة الآتى: ج/1: ضرورة الفصل ، ابتداءً ، بين الاحترام الواجب ، من جهة ، للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة كمؤسَّسة قضائيَّة جنائيَّة دوليَّة يتحقق بها حلم البشريَّة القديم ، ويصطف فى الحملة العالميَّة الداعمة لها ملايين الناس ، وبين الموقف الوطنى الرافض ، من الجهة الأخرى ، للتدخل الاجنبى ، عسكرياً أم سياسياً ، والداعى ، فى الوقت نفسه ، لاجتراح الحلول الداخليَّة ، لا لمشكلة دارفور وحدها ، بل ولكل مشاكل السودان ذات الأثر والخطر على تماسك جبهته الداخليَّة ، وعلى رأس تلك الحلول تيسير إعادة الاصطفاف الوطنى عبر آليَّة مؤتمر قومى جامع ، ومشاركة سياسيَّة ومدنيَّة واسعة ، وحكومة وحدة وطنيَّة (حقيقيَّة) ، ذات قاعدة عريضة ، فعلاً ، لا قولاً فحسب. ج/2: العودة ، فى هذا السياق ، وبهدف إصلاح الخطاب الرسمى ، إلى نقطة البداية الصحيحة التى كان افترعها ، فى أبريل 2005م ، قبل أن يتراجع عنها لاحقاً * ، الأستاذ على عثمان طه ، نائب رئيس الجمهوريَّة ، وذلك فى حديثه أمام المؤتمر الصحفى المشترك الذى عقده ، وقتها ، بأوسلو مع الفقيد د. جون قرنق ، رئيس الحركة الشعبية ، وهيلدا جونسون ، وزيرة التنمية الدوليَّة النرويجيَّة ، حيث "تعهَّد بمحاكمة كلِّ من انتهك حقوق الانسان فى دارفور" ، مؤكداً: ".. أن العدالة يجب أن تفعَّل لمنع الافلات من العقاب .. وسيقدَّم للمحاكمة أىُّ متهم تتوفر بيِّنات فى مواجهته بارتكاب جرائم ضد الانسانيَّة" ، ومقدماً توضيحات معقولة حول رفض الرئيس عمر البشير تسليم أىِّ سودانى إلى المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، بأن "البشير لا يرى حاجة لتسليم أىِّ مواطن للمحاكمة فى الخارج .. وأن ذلك ليس خرقاً لقرار مجلس الأمن رقم/1593 لأن القرار لا يشير إلى ضرورة محاكمة السودانيين فى الخارج .. وأن الحكومة تدرس حالياً القرار بالطريقة التى تحقق جوهره .. فإذا كان يهدف إلى تحقيق السلام وحماية المدنيين والحل السياسى ومعاقبة منتهكى حقوق الانسان فنحن معه" (الصحافة ، 12/4/2005م). ج/3: إعتبار قيمة ذلك التصريح كامنة لا فى حرفيَّة نصِّه التى قد تشى بالالتواء والقلقلة عند التعاطى معه من منظور خبرة الاتساق المنعدم بين أقوال النظام وممارساته الفعليَّة ، وإنما فى تأويل روحه وجوهره بما "يحقق السلام ، ويحمى المدنيين ، ويضمن معاقبة منتهكى حقوق الانسان ، ويوفر الحل السياسى الشامل لكلِّ مشاكل السودان" ، الأمر الذي يعني توجُّه الدولة المستقيم لإجراء الاصلاحات السياسيَّة والقانونيَّة الضروريَّة. فإذا أخذنا الاتفاقيَّة والدستور الانتقالى فى الاعتبار ، فإن النظام ملزم بتحقيق هذه الأهداف ، لا كيفما اتفق ، بل فى سياق تنفيذ مطلوبات (التحوُّل الديموقراطى) ، وفى مقدِّمتها (العدالة الانتقاليَّة). ج/4: غير أن المشكلة الحقيقيَّة التى تجابهنا فى الوقت الراهن تتمثل فى شحِّ فرص هذا (الانتقال) أو (التحوُّل الديموقراطى) نفسه الذى لا يبدو ، حتى الآن ، أن النظام يمتلك لأجله إرادة سياسيَّة كافية! والدليل على ذلك ما ظلَّ يبدى من جفول ، لا يباريه فيه سوى جفول الشيطان من البخور ، كلما ورد مفهوم (العدالة الانتقاليَّة) المنضبط ، فما يلبث أن يشيح عنه مفضلاً استخدام مفهوم (المصالحة) السائب الذى يقول كلَّ شئ دون أن يقول شيئاً ، والذى يأخذ بالشمال ، فى التو ، ما قد يكون منح باليمين ، على النموذج الذى كان اجترحه وطبَّقه نظام النميرى عام 1977 ـ 1978م. ويجدر أن نلاحظ هنا أن شركاء النخبة الاسلامويَّة الحاكمة الحاليين ، مِمَّن قاتلوها السنوات الطوال قبل أن يبرموا معها اتفاقيات (السلام) فى الجنوب ودارفور ، قد تجاهلوا مطلب (العدالة الانتقاليَّة) ، وأوردوا، بدلاً منه ، مطلب (المصالحة)! ففى الدستور الانتقالى ، المستند إلى الاتفاقيَّة الأولى ، تنصُّ المادة/21 على أن "تبتدر الدولة عمليَّة شاملة للمصالحة الوطنيَّة وتضميد الجراح من أجل تحقيق التوافق الوطنى والتعايش السلمى بين جميع السودانيين". ورغم ما تتسم به هذه الصياغة من إنشائيَّة برَّاقة قد تعشى العيون للوهلة الأولى ، إلا أنها سرعان ما تتكشف عن خواء كامل إذا أخذنا فى الاعتبار أنها وردت ضمن المواد الموجِّهة لا الملزمة ، وأنها وردت بابتسار مُخِل ، مقارنة مع التفصيل الممل فى نصوص أخرى أقل أهميَّة ، وأنها وفرت ، حتى الآن ، مهرباً مريحاً لحكومة الشريكين من النهوض بعبئها فى التطبيق العملى لجوهر الاتفاقيَّة! أما (أبوجا) ، فرغم أنها ضمَّنت (الفصل الرابع منها ـ م/31) صياغات مسهبة لنصوص الفقرات من (458) إلى (503) ، تحت عنوان (الحوار الدارفورى ـ الدارفورى والتشاور) ، إلا أنها جاءت ، مع ذلك ، أكثر سوءاً ، كونها لم تقم وزناً للمتغيِّرات المجتمعيَّة التاريخيَّة ، فمضت تدور حول مفهوم (المصالحة) بدلالة النموذج (الأهلى) القديم ، فى وسطٍ نزعت منه قسوة الحرب الضروس تلقائيَّته الفطريَّة التى لطالما هَدَته ، فى السابق ، إلى (الديات) و(مؤتمرات الصلح القبلي) يحلحل عن طريقها مشكلات (التنافس) على (الموارد) الشحيحة ، لتقذف به ، الآن ، فى جحيم الاقتتال التناحرى على متخيَّل (الهُويَّات) ومرائيها وتصوُّراتها المتوهَّمة perceptions ، حسب نظريَّة د. محمد سليمان السديدة فى كتابه (السودان: حروب الموارد والهويَّة). وبالنتيجة فقد قضى على نموذج (المصالحات القبليَّة التقليديَّة) وسط الحريق الهائل الذى اندلع فى الاقليم بما أفضى إليه من قتل ونهب وسلب واغتصاب واختفاءات قسريَّة ، بتلك الصورة المنهجيَّة واسعة النطاق ، والتى لم يرَ الاقليم شبيهاً لها طوال تاريخه. و(الدولة)، إذ تسعى الآن ، وعبر هذه الاتفاقيَّة الهشَّة ، إلى تشغيل مفهومها هي (للمصالحة)، مؤمِّلة فى انتشال ذلك (النموذج) التقليدى من جوف تلِّ الرماد ، لإعادة توظيفه ، من عجب ، فى "حشد التأييد" للاتفاقيَّة ، إنما تنسى أو تتناسى أنها لم تكن محايدة على الاطلاق فى ما جرى ، وأن محاولتها نفخ الروح فى ذلك (النموذج) وسط أهل دارفور مرَّة أخرى محكوم عليها بالفشل ، كونه قد باخت هيبته فى نفوسهم مذ تضعضعت أوضاع إداراتهم الأهليَّة باستتباع السلطة المذلِّ لهم وسط الحريق الهائل الذى اندلع خلال الفترة الماضية فى الاقليم. ج/5: وإذن ، ومع كلِّ ما سقنا من مآخذ على المادة/21 من الدستور الانتقالى ، فثمَّة ضرورة سياسيَّة وطنيَّة تستوجب الاهتداء (بروحها) لتأويل (نصهِّا) بما يحقق مرامى المفهوم الحديث (للعدالة الانتقاليَّة) ، وذلك فى ضوء خبرات البلدان المشار إليها ، لا الانكفاء على اقتفاء آثار تلك الخبرات بلا تبصُّر ، مع وضع الحقائق الآتية فى الاعتبار: ج/5/1: أقرب هذه الخبرات إلينا تجربتا (المغرب) تحت عنوان: (الحقيقة والانصاف) ، و(جنوب أفريقيا) تحت عنوان: (الحقيقة والمصالحة) ، دون إغفال قرابة الأربعين تجربة عالميَّة أخرى جعلت ، فى محصلتها النهائيَّة ، خطاب المجتمع الدولى الذى كان منصباً ، نظرياً ، على ما يُعرف (بتسهيل التقاضى Access to Justice) فحسب ، خلال سبعينات وثمانينات القـرن المنصرم ، يرتقى ، منذ مطالع تسعيناته ، باتجاه التشديد العملى على ما يُعرف (بعدم السماح بالافلات من العقاب Impunity). ج/5/2: لقد أفضى جدل التطوُّر الطبيعى لعلاقات المجتمع المدنى مع النظام السابق فى (المغرب) ، من خلال عمليات (التحوُّل الديموقراطى) الجارية ، على قصورها ، إلى إحداث (التحوُّل) داخل بنية النظام نفسه ، بينما أفضى فى تجربة (جنوب أفريقيا) إلى نموذج مغاير بإنجاز القطيعة التامَّة مع النظام السابق. ج/5/3: التجربتان مطروحتان ، فى أفق الخبرة الانسانيَّة العامَّة ، من خلال الاشتباك الوثيق مع دور القوى السياسيَّة ومنظمات المجتمع المدنى فى عمليَّة (التحوُّل) ، أو تجاوز (سنوات الرصاص) ، حسب المصطلح المغربى ، بلفظ العنف ، وتفادى نزعة الانتقام ، واعتماد الوسائل الديموقراطيَّة السلميَّة وحدها فى تقصِّى (الحقيقة الكاملة) ، وأداء (واجب الذاكرة) وفق علم النفس الاجتماعى ، و(جبر الضرر) الهادف لإعادة الاعتبار ماديَّاً ومعنويَّاً للضحايا وذويهم ، وإعادة تأهيلهم فى المستويين الفردى والجماعى ، وابتداع (الاصلاحات الهيكليَّة) الكفيلة بقطع الطريق أمام أىِّ انتهاكات لحقوق الانسان فى المستقبل. لقد انتهجت كلتا التجربتين (جلسات الاستماع العمومى public hearing) كآليَّة لاستخلاص (الحقيقة) علانية. ج/5/4: لقد شكلت تلك الخبرات ، وما تزال تشكل ، علامة انعطاف نوعيَّة فارقة فى التاريخ الانسانى ، مِمَّا يجعلها جديرة بالاقتداء بها ، وابتداع أشكال جديدة تثريها من واقع المخزون الدينى والثقافى لمختلف الشعوب. أما التعويل القديم على (خداع) النفس والشعب والعالم (بفبركة) نماذج من (مصالحات صوريَّة) و(ديموقراطيَّات شكلانيَّة) يكاد لا يتبدَّى لها مردود سوى فى ضجيج إعلامى (يُقرأ: دعائى) لا يرُدُّ (حقاً) أو يجبر (ضرراً) ، كما هو الوضع الراهن فى السودان ، ومحاولة تسويق موقف مناهض ، بعد ذلك كله ، (للعدالة الجنائيَّة الدوليَّة) ، وبالأخصِّ (للمحكمة الجنائيَّة الدوليَّة) ، باعتبارها مجرَّد آليَّة (للاستكبار الدولى) ، فقد أمسى نهجاً مفضوح البوار والخسران ، بل ، بالاحرى ، محض وهم غارق فى الكساد واللا تاريخيَّة!
* تراجع نائب رئيس الجمهوريَّة ، لاحقاً ، للأسف الشديد ، عن ذلك الموقف العقلانى ، بتصريحه فى المؤتمر الصحفى الذى عقده بالقصر الجمهورى ، منتصف مارس 2006م ، مشدِّداً على "رفض محاكمة أى مواطن سودانى أمام المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة مهما كان الثمن!" (الأيام ، 15/3/06).
المراجع: (1) أحمد عبد الحميد محمد الرفاعي ؛ النظريَّة العامَّة للمسئوليَّة الجنائيَّة الدوليَّة ، مؤسَّسة الطوبجي ، القاهرة 2005م (2) محمد سليمان ؛ السودان: حروب الموارد والهويَّة ، ط 1 ، جامعة كيمبردج ، (3) كمال الجزولي ؛ الحقيقة في دارفور ـ عرض وتقديم لتقرير لجنة التحقيق الدوليَّة ، ط 1، مركز القاهرة لدراسات حقوق الانسان ، القاهرة 2006م (4) محمود شريف بسيوني ؛ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة (مدخل لدراسة أحكام وآليات الانفاذ الوطني للنظام الأساسي) ، ط 1 ، دار الشروق ، القاهرة 2004م (5) محمود شريف بسيوني ؛ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، نادي القضاة ، القاهرة 2001م (6) فتح الرحمن عبد الله الشيخ ؛ مشروعيَّة العقوبات الدوليَّة والتدخل الدولي ، ط 1 ، مركز الدراسات السودانيَّة ، القاهرة 1998م (7) وليد عبد الناصر ؛ "مفهوم حق التدخل الانساني: في انتظار تكييف قانوني ذي قيمة إلزاميَّة" ، الحياة ، ع/1214 بتاريخ 22/5/1996م (8) حسنين عبيد ؛ القضاء الجنائي الدولي ، دار النهضة العربيَّة ، 1997م (9) عبد الوهاب حومد ؛ الاجرام الدولي ، مطبوعات جامعة الكويت ، 1978م (10) سعيد عبد اللطيف حسن ؛ المحكمة الجنائيَّة الدوليَّة ، ط 1 ، دار النهضة العربيَّة ، 2000م (11) عبد الرحيم صدقي ؛ "القانون الدولي الجنائي" ، المجلة المصريَّة للقانون الدولي ، ع/40 ، عام 1984م (12) يونس الغزاوي ؛ مشكلة المسئوليَّة الجنائيَّة الشخصيَّة في القانون الدولي ، بغداد 1970 (13) محمد سامي عبد الحميد ؛ أصول القانون الدولي العام ، ج 2 ، ط 6 ، الدار الجامعيَّة ، الاسكندريَّة 1984 (14) ف. إ. ليسوفسكي ؛ القانون الدولي (بالروسيَّة) ، دار فيشايا شكولا ، موسكو 1970 (15) Wolfgang Friedmann; The Changing Structure of International Law, Stevens & Sons Limited, London 1964 (16) P. Hassner, Violence and Peace: From the Atomic Bomb to Ethnic Cleansing, 1995 (17) Trials of War Criminals Before the Nuremberg Military Tribunals Under Control of Council Law No. 10, Vol. III (Washington D. C., U. S. Printing Office, 1951 (18) Robert H. Jackson; “Forward: The Nuremberg Trial Becomes a Historic Precedent”, Temple Law Quarterly, XX (1946-1947) (19) Joroslav Zurek; “The Nuremberg Principles as a decisive Stage in the Development of International Law”, Review of Contemprary Law, No. 2, December 1961 (20) Henry L. Stimson; “the Nuremberg Trial: Landmark in Law”, Foreign Affairs, XXV, January 1947 (21) Lord Dening, Civil Liberties Cases and Materials, 2end Ed (22) إتفاقيَّة السلام الشامل CPA لسنة 2005م (23) دستور السودان الانتقالي لسنة 2005م ، (24) إتفاقيَّة سلام دارفور DPA لسنة 2006م (25) القانون الجنائى السوداني لسنة1991م (26) قانون الاجراءات الجنائيَّة السوداني لسنة1991م (27) قانون الأمن الوطنى السوداني لسنة 1999م (28) قانون قوات الشعب المسلحة السوداني لسنة 1986م (29) قانون الاثبات السوداني لسنة 1993م (30) ميثاق عصبة الأمم (31) ميثاق الأمم المتحدة (32) نظام روما لسنة 1998م (33) إتفاقيَّة وستفاليا لسنة 1648م (34) إتفاقيَّة جنيف للصليب الأحمر الدولي لسنة 1864م (35) إتفاقيات لاهاي لسنة 1899م و1907م (36) معاهدة فرساي (37) بروتوكول جنيف لسنة 1924م (38) الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948م (39) اتفاقيَّة منع الابادة الجماعيَّة والمعاقبة عليها لسنة 1948م (40) اتفاقيات جنيف الأربع حول القانون الانسانى الدولى لسنة 1949م (41) العهد الدولى الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1956م (42) قرار مجلس الأمن رقم/827 لسنة 1993م بإنشاء (محكمة يوغسلافيا السابقة) بلاهاي (43) قرار مجلس الأمن رقم/995 لسنة 1995م بإنشاء (محكمة أروشا) بتنزانيا (44) إعلان مبادئ القانون الدولى الخاص بالعلاقات الوديَّة والتعاون بين الدول لسنة 1970م (45) كلمة السكرتير العام الأسبق للأمم المتحدة ، د. بطرس بطرس غالى ، أمام (المؤتمر العالمى لحقوق الانسان بفيينا لسنة 1993م) ـ ضمن: ف. الشيخ ، 1998م (مصدر سابق) (46) صحيفة الرأى العام ، 28/9/2005م (47) صحيفة الرأى العام ، 18/10/2005م (48) صحيفة الرأي العام ، 29/4/2007م (49) صحيفة الرأي العام ، 7/6/2007م (50) صحيفة الرأي العام ، 8/6/2007م (51) صحيفة الصحافة ، 12/4/2005م (52) صحيفة الصحافة ، 14/12/2005م (53) صحيفة الصحافة ، 15/12/2005م (54) صحيفة الصحافة ، 4/5/2007م (55) صحيفة الوحدة ، 17/12/2005م (56) صحيفة الأيام ، 27/9/2005م (57) صحيفة الأيام ، 15/3/2006م (58) صحيفة السوداني ، 26/3/2007م (59) صحيفة السوداني ، 1/5/2007م (60) صحيفة السوداني ، 3/5/2007م (61) صحيفة السوداني ، 8/6/2007م *** |
|
|
|
|